منذ أن اندلعت ثورة الشام قبل حوالي تسع سنوات، أدركت الدول الاستعمارية وبخاصة أمريكا خطورة هذه الثورة، وخطورة مطالبها، التي ألهبت المشاعر الإسلامية في نفوس الناس، فاندفعت جموع الناس تواجه آلة الإجرام بصدور عارية، وأيقظت في النفوس التطلع إلى إقامة دولة تطبق نظام الإسلام من جديد، الأمر الذي ظن الكافر أنه قد اندثر في هذه الأمة إلى الأبد.
وقد أدركت الدول الاستعمارية، أنه إن كُتب لهذه الثورة النجاح، فإنها ستقتلع جذورهم جميعاً، ليس فقط من الشام، بل ومن كافة بلاد المسلمين، الأمر الذي أقض مضاجعهم، وجعلهم يصلون الليل بالنهار للكيد والتآمر على هذه الثورة حتى يحولوا دون انتصارها وتحقيق ما تتطلع إليه من أهداف.
فقد حاكت رأس الكفر أمريكا، بالتعاون مع جميع الدول ومن خلال المنظمات الدولية وعلى رأسها وكر المؤامرات مجلس الأمن ما أطلقت عليه الحل السياسي للأزمة السورية، والذي حاكت نواته في جنيف والذي ينص بشكل واضح على المحافظة على أسس النظام من خلال المحافظة على الجيش والأجهزة الأمنية التي سامت الناس سوء العذاب على مدى عقود مضت فضلاً عن التقتيل والتدمير والتهجير وشتى أنواع التنكيل الذي طال معظم أهل الشام الصابرين المحتسبين.
وقد كانت الظروف حين عقدت نواة الحل السياسي في جنيف غير مواتية لقبوله من أهل الشام الثائرين، فقد أدركوا وقتها بأن جنيف مؤامرة للالتفاف على ثورتهم، حيث كانت أغلب المناطق خارج سيطرة النظام، وكان قد أشرف على السقوط، ونشوة النصر تجعل النفوس تعانق السماء، بقرب انتصار الثورة.
عندها أدركت رأس الكفر أمريكا، بأن عليها ترويض هذا الشعب، ليكون عبرة لغيره من الشعوب، وذلك عبر العمل على إفساد الثورة من الداخل، وتحويل الجهاد من جهاد شعب ثائر إلى قتال فصائل ومجموعات مرتبطة بداعم ينفذ أوامر أمريكا، فظهرت الفصائل المرتبطة، وأُغدق عليها المال السياسي المسموم، وفُرضت عليها الخطوط الحمراء التي جُعلت للمحافظة على النظام من السقوط، وفي المقابل أطلقت أمريكا يد إيران وحزبها ومليشياتها الطائفية ليعيثوا فساداً وتقتيلاُ من أجل المحافظة على النظام المجرم، ولمّا فشلت، جلبت روسيا وأطلقت يد آلتها العسكرية المجرمة ظناً منها أنها بقوتها التدميرية الهائلة تستطيع أن تركع أهل الشام خلال ثلاثة أشهر. لكن أهل الشام الصابرين الثابتين، لم ترعبهم آلة الروس الوحشية ورأيناهم يتندرون في مقاطع مرئية أدخلت الرعب في نفوس المجرمين.
فما كان منهم إلا أن لجأوا إلى المكر والحيلة، إلى المؤامرات والمؤتمرات، وشكلت أمريكا لهذه المهمة ثالوث الإجرام التركي والإيراني والروسي، وبدأت سلسلة أستانة التي اشتركت فيها الفصائل المقاتلة والتي كانت نتيجتها كارثية، فقد سُلّمت المناطق للنظام بمعارك وهمية خاضتها الفصائل بطريقة دراماتيكية، تحت قصف بربري طال بشكل أساسي الناس الآمنين، والهدف كان ولا يزال واضحاً جلياً وهو تركيع الناس للقبول بالحل السياسي.
ولا ينبغي لنا أن ننسى كذلك الدور الخطير الذي لعبته دول الكفر عبر السماح بتمدد تنظيم الدولة من الموصل إلى الرقة ومناطق واسعة في سوريا وادعائه بإقامة "خلافته المزعومة" وبممارساته المرعبة التي أريد منها تشويه صورة الخلافة لدى المسلمين، مع إعطاء المبرر للقضاء على أي توجه إسلامي لثورة الشام تحت ذريعة محاربة (الإرهاب).
وعندما أمّنت أمريكا عاصمة النظام وما حولها عبر أدواتها وخاصة الثالوث المجرم، بدأت مرحلة جديدة في آخر معاقل الثورة ظناً منها أن الناس قد وصلوا بعد الحملة الهمجية الأخيرة والتي تم بموجبها قضم مساحات واسعة في ريفي حماة وإدلب، وموجة التدمير الوحشي التي قادتها طائرات الإجرام الروسي ضد الناس الآمنين وشردت مئات الآلاف ورمت بهم في العراء في محافظة إدلب وفي مخيمات بجانب جدار "الفصل العنصري الذي بناه نظام أردوغان" لا يملكون أدنى مقومات الحياة.
وفي هذه الأثناء تلوح في الأفق مرحلة خطيرة، تهدف أمريكا عبر أدواتها وخاصة النظام التركي، للقضاء على ما تبقى من أمل في نفوس الناس لتحقيق أهداف ثورتهم والتي لا يزال أبرزها إسقاط النظام المجرم.
فقد دخلت أمريكا الميدان مباشرة وذلك عبر استهداف مقرات لفصائل اعتبرتها إرهابية، وقامت بتصنيف فصائل أخرى على أنها إرهابية، وتهدف من وراء ذلك إلى إحداث فرز جديد للفصائل في المحرر والتوطئة لافتعال اقتتال جديد، يوهن الجميع ويقضي على بقية الأمل في نفوس الناس، ويترافق ذلك مع عقد هدنة طويلة الأمد مع النظام المجرم لمنع الفصائل من القيام بأي عمل نحوه، تُفتح بموجبها الطرقات الرئيسية، التي ستقسم المناطق المحررة وتضعفها وتجعلها تحت رحمة النظام المجرم وحلفه، وستكثر عندها حوادث الاغتيال والتفجيرات، مع تفعيل بعض الخطوات العملية على الجانب السياسي مثل "اللجنة الدستورية" من أجل إعداد دستور علماني جديد يؤكد على علمانية الدولة وضرورة المحافظة على أجهزتها الرئيسية من جيش وأجهزة أمنية بقطع النظر عن الأشخاص، وهذا عين الحل السياسي الذي بدأته أمريكا في جنيف منذ سنوات، وبذلك تضمن أمريكا نفوذها في الشام وتضمن القضاء على بذور هذه الثورة التي شيبت رؤوس زعمائها.
فعلى أهل الشام الصابرين المحتسبين خيرة أمة محمد e أن ينتبهوا لمكر الماكرين، وأن يقطعوا الطريق على من يتربص بهم وبثورتهم الدوائر وينسوه أحلامه، ويكون ذلك عبر اتخاذ قيادة سياسية واعية مخلصة صاحبة مشروع مستنبط من كتاب الله وسنة رسوله e يكون أساساً للنظام البديل عن نظام الإجرام، وكذلك بتجميع المخلصين من المجاهدين، وهم كثر والحمد لله، تحت قيادة مخلصة واعية خبيرة غير مرتبطة، تنظم صفوفهم وتفتح الجبهات وخاصة الاستراتيجية منها، وتضع نصب عينيها عقر دار النظام، غير آبهة بالخطوط التي وضعها الداعمون لحماية النظام. ولا يجب أن ينسوا كذلك قطع يد وحبال كل دول الكفر وأدواتهم من حكام المسلمين المجرمين، والتشبث بحبل الله عز وجل، فمعركتنا مع دول الكفر هي معركة مصيرية، إنها معركة بين الحق والباطل، معركة إسلام وكفر، هم أرادوها كذلك ويخوضونها على أساس أنها معركتهم المصيرية، وعلينا أن ننظر إليها كذلك، وأن نخوضها على هذا الأساس فلا يوجد أنصاف ثورة ولا أنصاف إسلام، فلنؤمن أن النصر بيد الله سبحانه وتعالى وليس بيد أمريكا ولا أدواتها، ولن يتنزل النصر إن نحن تخلينا عن نصرة الله ونصرة دينه ورضينا بالحل السياسي الأمريكي وخضعنا لمقرراتهم وتوجيهاتهم، يقول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [سورة محمد: 7]. فانبذوا أمريكا وحلها المدمر ووعود الضامنين والداعمين الكاذبة، واعتصموا بحبل الله جميعاً، واعلموا أن النصر مع الصبر وأن العاقبة للمتقين وأن مع العسر يسراً.
بقلم: د. محمد الحوراني
عضو لجنة الاتصالات لحزب التحرير في ولاية سوريا
رأيك في الموضوع