إن القيادة السياسية هي الجهة الموجهة للأمة المرشدة والناصحة لها، فهي التي تكشف الطريق أمامها وتحذرها من الأخطار، وتذلل لها العقبات حتى تصل إلى هدفها. كيف لا وهي الواعية على الطريق المتبصرة به، وهي حاملة مشروع التغيير العارفة به، وهي العالمة بمصالح الأمة والمتبنية لها والساعية لتحقيق هذه المصالح. وهي المتتبعة لكل من يتربص بالأمة ويكيد لها ويتآمر عليها. فهي التي تسعى لكشف المؤامرات قبل وقوعها وتفضح العملاء وتضرب الخطط الشريرة التي تحاك ضد الأمة.
والجهة المؤهلة لأن تكون قيادة سياسية للأمة لا بد أن تكون صاحبةَ رؤيةٍ واضحةٍ شاملةٍ لواقع الأمة، واعيةً على طريق التغيير الذي تنشده ومتمتعةً بخبرة سياسيةٍ وحنكةٍ ودرايةٍ به، حريصةً على الأمة، ملتزمةً أمر الله وحاملةً مشروع الإسلام العظيم منهجَ حياة بكافة جوانبها، ساعيةً لتحميله الأمة ومساعدتها على حمله كي يتم تطبيقه في الواقع.
والقيادة السياسية لأي أمة هي حاجة ملحة وضرورة لا يمكن الاستغناء عنها بحال، لأن الأمم بشكل عام عندما تسعى للتغيير، فحركتها يغلب عليها الطابع الشعبي الفوضوي، هذه طبيعتها، فإن لم تتخذ قيادة سياسية تقود حركتها وتنظمها فإنها لا شك ستغرق في الفوضى وتخسر أيما خسران. فكيف إذا كانت كما هي حال الأمة الإسلامية الآن يتربص بها كل أراذل الأرض وشياطينها ومجرميها؟!
فقد تحركت جموع الأمة بعد أن قُضِي على خلافتها، تحركت ضد قوى الاستعمار بثورات قدمت الملايين من الشهداء، لكن ما لبثت أن وجدت نفسها تحت حكم أدوات الاستعمار، الذين نصبهم عليها فرزحت تحت حكمهم وظلمهم عشرات السنين.
ولو استعرضنا صفحات تاريخ الشعوب لوجدنا الحال نفسه مع معظم الثورات وحركات التغيير التي اندلعت في الماضي، إلا أن التاريخ يشهد أن الثورة البلشفية استطاعت أن تنتصر على حكم القيصر الروسي في بداية القرن الماضي بفضل اتخاذها قيادة سياسية مبدئية وهي الحزب البلشفي بقيادة لينين، حيث استطاع هذا الحزب وبفترة وجيزة إقامة دولة عظمى كانت تنافس الدولة الأولى على مكانتها.
وينطبق الحال نفسه كذلك على الثورة الفرنسية، التي تخبطت كثيراً قبل اتخاذها قيادة سياسية مبدئية قادتها لبناء النموذج الحالي للدول الغربية على أساس المبدأ الرأسمالي، والتي يقوم فيها بدور القيادة السياسية في الوقت الحاضر الأحزاب السياسية الفاعلة، والناس تنتخبهم بناءً على ما تحمله هذه الأحزاب من مشاريع وبرامج.
أما الأمة الإسلامية فقد كان رسول الله ﷺ هو قيادتها السياسية. فقد قاد ﷺ عملية التغيير الشامل، وأقام صرح الدولة الإسلامية التي امتدت لأكثر من 13 قرناً.
وبعد النبي ﷺ كانت القيادة السياسية للأمة تتمثل في الخلفاء الذين قادوها إلى العلياء، حيث تربعت الدولة الإسلامية على رأس هرم الأمم لقرون عدة، مطبقةً الإسلام منهج حياة داخلياً، وحاملةً الإسلام بالجهاد إلى أرجاء المعمورة. فقد تم القضاء على جبابرة الأرض وقتئذٍ عبر قتال أعظم دولتين في تلك الفترة، وهما الفرس والروم في الوقت نفسه والتغلب عليهما.
وهذا الأمر لم يكن مقتصراً على هذه الأمة الكريمة بل هو شأن الأمم السالفة. فعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ» قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ». متفق عليه.
ولما تعاون الغرب الكافر مع أدواتهم من أبناء الأمة على إبعاد الإسلام عن الحكم وفصله عن حياة المسلمين، ظل العلماء والمشايخ هم القيادة السياسية للأمة، فصارت أنظمة الجور تقرب المفتين وتعين المشايخ وتبرز المقربين لها، لعلم هذه الأنظمة أن الناس تقاد للعلماء والمشايخ، فاتخذت لها طبقة من علماء السلاطين يستعينون بها على قيادة المسلمين سياسياً في عصر الحكم الجبري، مع محاربة هذه الأنظمة المجرمة للعلماء الأتقياء وللإسلام بشكل عام.
وقد كان لعلماء السلاطين دور كبير في ترويض الناس تحت حكم هذه الأنظمة المجرمة لعقود كثيرة، وقد كان ذلك جلياً في السعودية ومصر وغيرها من بلاد المسلمين.
وعندما شعرت الأمة بحقيقتهم وثارت عليهم منذ عقد من الزمان، استطاعت الجموع الثائرة أن تخلع عدداً من هؤلاء الحكام المجرمين، كما استطاعت أن تخلخل حكم البعض، لكنها بالرغم من التضحيات الجسام التي قدمتها في أفغانستان والعراق واليمن وغيرها لم تستطع أن تصل للتغيير المنشود، بل كانت النتائج في بعض البلدان كارثية بكل المقاييس، ويعود ذلك كله إلى سبب واحد وهو أن الأمة لم تتخذ قيادةً سياسيةً واعيةً مخلصةً تقودها إلى النصر وتحقيق التغيير المنشود.
ولما اندلعت ثورة الشام وأحست دول الكفر بخطورتها وخطورة توجهها، فسارعت لعقد المؤتمرات وتصنيع قيادات، لقيادة الثورة نحو حتفها قبل أن تصل لمبتغاها في القضاء على نظام الإجرام.
فتقاسمت أمريكا مع هذه الدول الأدوار في هذه المهمة القذرة، وكلٌّ أخذ دوره، فشكل المجلس الوطني، ثم بعد فشله عمدوا إِلَى تشكيل الائتلاف الوطني واختاروا قياداته على عين بصيرة.
ثم شكلت المخابرات الأمريكية وغيرها غرفتي الموك والموم في الأردن وتركيا، وكانتا للسيطرة على طرق الدعم وامتلاك القدرة على شراء الذمم وتوجيه الفصائل المقاتلة.
هكذا تدخلت الدول المتآمرة فساهمت في دفع الفصائل لتعيين قادة ترضى عنهم، وجرى ربطهم بها، وتم تعيين "شرعيين" يبررون للقادة تنازلاتهم وتخاذلهم وتفريطهم بحق الأمة.
وهكذا أصبحت مخابرات الدول عبر غرفتي الموك والموم هي بمثابة القيادة السياسية للفصائل، فسُحب القادة إِلى مؤتمرات جنيف وفينّا وأستانة والرياض والقاهرة، وبدت الفصائل وكأنها تقود الثورة سياسياً، ولكن ليس نحو النصر، بل نحو تطويعها وتكبيلها والقضاء عليها وإحياء النظام المجرم، من خلال تنفيذ تلك الاتفاقيات الخبيثة التي وقّع عليها قادة الفصائل بعد تلقيهم للمال السياسي القذر، فحدثت الانسحابات المتكررة وحدث الاقتتال بين الفصائل وتم تسليم المناطق الواحدة تلو الأخرى، حتى تقلصت مناطق الثوار إِلى مساحة ضيقة تعج بالمخيمات التي تحوي ملايين المهجرين، وتم التضييق على الناس في رزقهم وأسباب معيشتهم لتطويعهم، فانعكس كل ذلك على الثورة وأهلها كوارث وتراجع وهزائم.
وإضافة لذلك، أقيمت السجون السرية، فتم اعتقال المخالفين والثوار الصادقين وزج بهم في السجون، وكثرت حوادث القتل والاغتيال بينهم.
ولما أدركت الأمة دور المنظومة الفصائلية الخطير نفضت أيديها منها، وشرعت تبحث عن قيادة سياسية مخلصة واعية رشيدة، ترسم لها الطريق نحو النصر وتنيره لها.
ولقد برع حزب التحرير بأعمال القيادة السياسية في الأمة بشكل عام وفي ثورات الربيع العربي بشكل خاص، برز ذلك من خلال مواكبته الحثيثة لثورات مصر وتونس وليبيا واليمن والسودان، فكان حاضراً متابعاً ورائدا لا يكذب أهله، يحذر الأمة قبل كل أزمة، ويعطي المعالجات لها ويقدم الإرشادات لتجنبها.
وفي ثورة الشام، خاصة كان متابعاً لها خطوة بخطوة، فقد حذر من البداية من دور الجامعة العربية ودور دول الخليج، وحذر من فخ أصدقاء الشعب السوري، وحذر من خطر دور النظام التركي على الثورة، وحذر من أموال الداعمين، وحذر من الارتباط بالدول ومن لقاء قادة الفصائل بها، وحذر من التبعية.
كما قدم الأوراق السياسية الثلاث، في 2012 و2014 و2021م، وهي بمثابة خارطة طريق لتحقيق أهداف الثورة، كما قدم في 2017 كتاباً مفتوحاً لكل الفعاليات الثورية والعسكرية والشعبية، موضحاً خطر ما تقوم به المنظومة الفصائلية.
كما قدم للأمة مشروعا منبثقا من عقيدتها لإقامة الدولة الإسلامية على منهاج النبوة، ووضع مشروع دستورها بين يدي الأمة.
لكن واقع الأمة الممزق بفعل عمل الأنظمة المجرمة وبأدواتها، وفعل الفصائل كذلك، وبتأثير الدعاية الكبيرة التي تقوم بها دول الكفر وأدواتها ضد حزب التحرير، كل ذلك حال دون أن تتخذ الأمة الحزب قيادةً سياسيةً لها.
فعلى الأمة أن ترتب أوراقها لكي تختار من يمثلها بصدق وأمانة، وهي أمة الخير، ولا يصلح إلا حملة مشروع الإسلام المفصّل والمبلور قيادةً سياسية، على الأمة أن تسير معهم إلى النصر والتمكين بإذن الله، ليتحقق هدف هذه الأمة في إقامة الكيان الذي يقيم لها دينها ويرجع لها عزتها ومكانتها الرائدة بين الأمم، وهذا الكيان هو الخلافة الراشدة على منهاج النبوة. ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
عضو لجنة الاتصالات المركزية لحزب التحرير في ولاية سوريا
رأيك في الموضوع