إن ما يميز الأمة الإسلامية ويجعلها أمة واحدة هو وحدة العقيدة التي انبثقت منها أحكام الشريعة ونظم الحياة المتعددة؛ من وحدة النظام السياسي المتمثل في الخلافة إلى بقية النظم التي انتظمت بها هذه الأمة العريقة وصهرت بها منذ نشأتها وحتى هدم خلافتها على يد اليهودي مصطفى كمال ومن خلفه دول الكفر الفاعلة مطلع القرن الماضي.
ومنذ ذلك الوقت والأمة تعيش حالة من التمزق والهوان والتخلف، يتلاعب بها أعداؤها كيفما يشاؤون، بينما الأمة تتوق للخروج من هذه الحالة الأليمة التي تعيشها، لذلك تراها تهلل لكل من يسعى لأن يخلصها من هذا الواقع المرير، وتدعمه بكل ما تملك، ولا تبخل بتقديم الغالي والنفيس من أجله، ولكن سرعان ما تكون النتيجة خذلاناً أكبر وألماً أشد وحيرة رهيبة!
لقد كان قول الله عز وجل: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ هو الأساس الذي نظم حالة التوحد في الأمة، والله سبحانه وتعالى وصفها بأنها أمة واحدة بقوله: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾.
لكن هذه الأمة لن تتوحد التوحد الصحيح المطلوب إلا إذا اعتصمت بحبل الله حقاً، وجاءت كلمة ﴿جَمِيعاً﴾ لتشير إلى حقيقة مفادها أن التوحد على أمر الله واجب على كل فرد من أبناء هذه الأمة ويجب أن يشمل الجميع، ولو شذ البعض عن هذا الاعتصام مهما كانوا قليلي العدد لغدوا باب مفسدة عظيمة، لأن شذوذ رجل قد يكون مقدمة لهلاك أمة، لهذا لم يكن يكفي اعتصام البعض دون البعض الآخر بل يجب أن يعتصموا جميعاً.
ولكن هذا التطلع لتوحيد الأمة وحاجتها له قد تم حرفه واستغلاله من جانب أعداء الأمة لتنفيذ مآربهم ومخططاتهم، لبقاء هذه الأمة في حالة الذل والهوان والتمزق التي تعيشها، حتى يسهل عليهم نهب خيراتها وإبعادها عن استعادة مجدها وتحقيق نهضتها التي تنشدها ليل نهار.
فتحت شعار "واعتصموا" تم بأوامر من الكافر المستعمر إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي، والتي تحول اسمها إلى منظمة التعاون الإسلامي، وكذلك تم إنشاء جامعة الدول العربية، هذه الكيانات التي لم تزد الأمة إلا فرقةً وتخلفاً لأنّها كيانات أنشئت لصرف الأمة عن السعي لتوحدها الحقيقي في ظل دولة خلافة واحدة.
وكذلك منظمة التحرير الفلسطينية، أنشئت بأوامر أعداء الأمة لتصفية قضية فلسطين، وليس لتحرير فلسطين، بل على العكس تماماً، فقد أنشئت لتكون ممثلاً وحيداً لتوقّع صك الخيانة والاعتراف بكيان يهود والتنازل عن معظم فلسطين لهم.
وفي السياق نفسه تأتي الدعوات لتوحيد الفصائل الفلسطينية، فالهدف واضح تماماً، وهو تطويع رقاب أهلنا في فلسطين وإخضاعهم باسم (التوحد) لحكم يهود، وشرعنة تصفية قضية فلسطين ومنها القدس بشكل نهائي.
والأمر ذاته شهدناه ونشهده في ثورة أهل الشام التي بدأت ثورة شعب انتفض في وجه أعتى أنظمة القمع والإجرام، واستطاع هذا الشعب أن يحصر نفوذ النظام المجرم في المربعات الأمنية لكبريات المدن، ولكن بدعوات تجميع المقاتلين والثوار في فصائل وجيوش، وبإشراف أعداء هذه الأمة المتربصين بها تراجع الحال وانقلب، فتمدد النظام وحوصر الثوار في ثلاث مناطق تحكمها بالظاهر فصائل وتقرر مصيرها دول من خلال اتفاقات أستانة وسوتشي، بينما يضع الضامن التركي يده على كل المفاصل.
ومع تصريحات النظام التركي بأنه يسعى لجرّ هذه الفصائل للمصالحة مع النظام المجرم، وفي سيناريو يكاد يشبه سيناريو منظمة التحرير الفلسطينية، تتعالى صيحات التوحد من حين لآخر ، وكلها تحت شعار "واعتصموا"، تارة يدعون للتوحد ضمن مجلس عسكري واحد، وتارة التوحد ضمن إدارة وحكومة واحدة، بينما الهدف من هذه الدعوات واضح لأهل الشام كل الوضوح، فهو الوسيلة لإخضاع ثورتهم وللقضاء عليها، وإعادة الناس لما كانوا عليه قبل 2011 إن لم يكن أسوأ، وذلك بعد ملايين الشهداء والمصابين والمهجرين والمشردين.
فليحذر أهلنا في الشام من هذه الدعوات المسمومة، والتي هي دعوات حق يراد بها الباطل. وليتذكروا أن التوحد المطلوب من الأمة بشكل عام ومن أهل الشام بشكل خاص، إنما هو الاعتصام بحبل الله المتين، وليس بحبال الداعمين بل وليس أي حبل، ولا يكون هذا الاعتصام بشعارات فضفاضة لا مضمون محدداً لها، بل يجب أن يكون الاعتصام والالتفاف حول مشروع واضح شامل محدد مستنبط من شريعة الله، المنبثقة من عقيدة هذه الأمة.
هكذا يكون التوحد والاعتصام الصحيح، الذي يوحد طاقات الأمة المبددة ويسير بها إلى النصر المبين.
فالاعتصام بحبل الله ليس خياراً لدى المسلمين، بل هو فرض عليهم، وما دخل الكافر المستعمر إلى بلاد المسلمين وسيطر عليها إلا عبر جسور التفرقة التي زرعت في جسد هذه الأمة.
فالله عز وجل نهى هذه الأمة عن الفرقة وأسبابها، لأنها السبيل لزوال الأمم، قال تعالى: ﴿وَلَا تَنَـازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِیحُكُمْ﴾، والتنازع هو الاختلاف وبداية الفرقة.
ولقد أمرنا الله عز وجل أن نتعاون على البر والتقوى ونهانا عن التعاون على الإثم والعدوان.
لذلك يجب أن نعي بشكل واضح أنه ليس كل دعوة إلى التوحد دعوة محمودة بل المطلوب والواجب هو الدعوة للتوحد على مشروع محدد مبلور منبثق من عقيدتنا، يجمع إمكانيات الأمة بشرائحها المختلفة ويوحد جهودها فيما يرضي ربنا عز وجل، ويوجهها لإسقاط نظام الإجرام وإقامة حكم الإسلام.
ولن يتحقق لنا ذلك إلا بقطع أيدي المتآمرين والعابثين بثورتنا، واتخاذ قيادة سياسية صادقة صاحبة مشروع محدد، نسير معها على هدى وبصيرة من أجل تحقيق أهدافنا وثوابتنا المشروعة.
وقد كان حزب التحرير كما عهدته الأمة دائماً، فهو الرائد الذي لا يكذب أهله، وقد أعد للأمة مشروع الإسلام العظيم، وهو يعمل مع الأمة من أجل إقامة دولة الخلافة على منهاج النبوة، وما على الأمة إلا أن تضع أيديها بيده وتسير معه وتتخذه قيادة سياسية، ليلتم شمل هذه الأمة وتقام دولتها رمز عزها ومجدها وخلاصها وفوزها في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.
* عضو لجنة الاتصالات المركزية لحزب التحرير في ولاية سوريا
رأيك في الموضوع