عندما بدأت الانتفاضة في السودان في 19 كانون أول/ديسمبر 2018م اتخذت شعار (تسقط بس)، وتمت مناقشة هذا الشعار بأنه دون رؤية، فكيف يكون حد الثورة إلى السقوط فقط! وماذا بعد السقوط؟ وهل السقوط هو لكل النظام بدستوره وقوانينه وأجهزة الحكم والإدارة، أم هو إبدال وإحلال مع بقاء النظام؟ بمعنى أن يذهب البشير العلماني الذي حكم السودان ثلاثين سنة بغير ما أنزل الله ودمر البلاد، وأضاع العباد، ويبقى نظامه الباطل من فدرالية وعلمانية، ثم يؤتى بعلمانيين آخرين يسيرون في النهج العلماني نفسه، والاستمرار في جريمة فصل الدين عن الحياة وإكراه المسلمين على الاحتكام إلى غير الإسلام جبرا عنهم.
في السادس من نيسان/أبريل 2019 تمكن الثوار من الاعتصام حول القيادة العامة للجيش، بعد كسر الحواجز الأمنية، وخرج قادة في الجيش بقيادة عوض بن عوف في الحادي عشر من نيسان/أبريل 2019م معلنين انقلابهم على البشير، ورفض قائد قوات الدعم السريع أن ينضم إلى مجلس ابن عوف العسكري، وقال إنه يفضل أن يكون مع الشعب، وكانت سكاي نيوز عربية قد أوردت خبراً أن الفريق أول ركن عبد الفتاح برهان هو الذي سيتوجه للإذاعة لتسجيل خطاب الانقلاب في اليوم نفسه 11/4، فإذا بالذي أذاع البيان هو ابن عوف الذي لم يتجاوز تسلمه للحكم الثلاثين ساعة، ومن ثم أعلن في الجمعة 12/4 أن برهان قد انقلب على ابن عوف ثم أعلن محمد حمدان دقلو الملقب بحميدتي نائبا لرئيس المجلس العسكري، مما يؤكد أن الأمر قد تم ترتيبه بعناية. وكانت المفاجأة أن مدير جهاز الأمن والمخابرات صلاح قوش قدم استقالته لبرهان فقبلها مباشرة وكأنه غير مؤاخذ عليه وليس له جرائم يجب معاقبته عليها.
لقد اعترف تجمع المهنيين والكيانات الموقعة على إعلان الحرية والتغيير، بالمجلس العسكري، وطلب من المجلس أن يعدل القوانين المقيدة للحريات، فقد أعلن المجلس العسكري أنه سيحكم البلد لسنتين كاملتين في فترة حكم انتقالي واعترض بعض المهنيين على ذلك وطالبوا أن يكون الحكم الانتقالي لمدة أربع سنوات، ولكن أعلن المجلس العسكري عقب اجتماعه في 27/4 مع ممثلي إعلان الحرية والتغيير أنهم شركاء أساسيون، بل أكد قبل ذلك بأن المهنيين وكيانات الإعلان هم الممثلون للثوار.
فبأي حق يصبح برهان رئيساً؟ أليس هذا انقلاباً؟ فمن الذي عين البرهان حاكما؟ أم إنه سيحكم بالجبر العسكري والحكم العلماني الذي يسمى بالدولة المدنية فقد تسلم الحكم سلفا، فحكومته جاءت بانقلاب عسكري بل هي امتداد للنظام السابق بكل المقاييس، نعم هذا هو الكذب الذي مرر على الناس وعلى الثائرين، ومحاولات لسرقة ثورة الشباب في السودان.
لقد اعترفت أمريكا بهذا المجلس وأيدته بعدما أرسلت مبعوثة بوفد التقى رئيس المجلس العسكري بعد عشر سنوات قطيعة مع الرئيس البائد، فقد قدمت مكيلا جيمس نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الأفريقية يوم الاثنين 22/4 بوفدها والتقت برهان وحثته على التفاوض وتشكيل حكومة مدنية في أقرب وقت، أما السفير الأمريكي فقد أجرى مقابلة مع حميدتي في الأيام الأولى للانقلاب. وزار بنفسه موقع الاعتصام مرات عدة.
وفي المقابل بأي حق يكون الموقعون على إعلان الحرية الممثلين الوحيدين لأهل السودان؟! أليس هذا استغفالا للناس وللثائرين الذين لم يكونوا عالمين بتوجه كيانات هذا الإعلان لاقتصارها على شعار (تسقط بس)؟
إن أمريكا تتفق مع المهنيين والمجلس العسكري على الدولة المدنية وهو نفس ما أصرت عليه في ثورات الربيع العربي بالحكم بالديمقراطية وهي العلمانية نفسها التي حرمها الإسلام. وقد صرح قادة من هذا الإعلان أمثال الناطق الرسمي باسم الكيان على العلمانية وهي الدولة المدنية أو التكنوقراط الذي يطلقونه بشكل سافر، مما يؤكد أن جهود الثوار ودماءهم التي سفكت وأرواحهم التي أزهقت قد قادها المجلس العسكري وكيان إعلان الحرية إلى غير المرتجى، مما يؤكد بقاء النظام السابق العلماني بنظام جديد أكثر سوءاً، فقد بدأ ودشن رؤيته بشيطنة الإسلام متخذا حكم ما يسمى بالإسلاميين ذريعة لتحقيق مآرب الاستعمار في السودان. بل مجلس الثورة هذا ترك الكثير الكثير من مجرمي الإنقاذ دون اعتقال، بل قبل استقالة مدير جهاز الأمن الذي تنوء الشكاوي والجرائم المسجلة ضده من الناس من تعذيب أو قتل وكان من أبرزها مقتل الأستاذ أحمد الخير في منطقة خشم القربة، وحتى الذين صرح قادة من المجلس العسكري أنهم تم القبض عليهم لم يصور أحد منهم ليوثق الإعلام حقيقة ذلك، ويقال إن هناك ملايين من الدولارات وغيرها وجدت في منزل الرئيس البائد ولم توضح حقيقتها وتوثيقها وكيف تم التعامل معها، هذه بعض الأمور البسيطة التي تغاضى المجلس العسكري عنها.
فهذا التجمع بكياناته الذي أعلن نفسه قائدا للثائرين منفصل عنهم، لأن الثائرين لم يثوروا من أجل إزاحة عميل والإتيان بعميل آخر يركز العلمانية في السودان وبصورة بشعة بدأت ملامحها في التشكل.
إن الجميع متفقون على أن نظام الإنقاذ لم يحكم يوما بنظام الإسلام بل حكم بالعلمانية في أبشع صورها، وأصر على أن يصور أن جرائمه هي الإسلام فأتى بالفدرالية وصور أنها من الإسلام مع أنها عصبية مزقت السودان وأفقرته وفصل بها جنوب السودان، وعندما فصلت الإنقاذ الجنوب باركته بعلماء السلاطين واستحلت الربا وادعت أنه يجوز في الإسلام، وأتت بدستورين علمانيين 1998، و2005، ولكن بحمد الله وفضله انبرى له حزب التحرير، أي لهذا النظام الذي سلب السلطة من الناس في 1989 وكشف علمانيته الملتحية وعمالته لأمريكا وسير مسيرات منها اثنتان إلى القيادة وجمع توقيعات مليونية وقام بإصدار ملايين النشرات يفضح فيها هذا النظام ويتبنى مصالح الأمة بناء على العقيدة الإسلامية، والآن إذا بالجيش يكرر السيناريو السابق ويسلب السلطان من الأمة ويعطي شرعية زائفة للعلمانية بدعوى الدولة المدنية التي تباركها أمريكا وتصر عليها.
لقد تمت شيطنة إسلاميي نظام الإنقاذ لدرجة أن كانت الهتافات تردد: (لا إله إلا الله الكيزان أعداء الله).. و(الكيزان اسم يطلق على سدنة النظام من الحركة الإسلامية التي قادها الترابي وعلي عثمان)، بل تعدى ذلك على عدد من المشايخ الذين تمت شيطنتهم، وأصبح ينادى لا نريد ذكر الإسلام كفانا هذه الخديعة، وأحدهم يقول لا تنادوا بحكم الإسلام من المجلس العسكري أعطوهم فرصة! وآخر يقول الوقت غير مناسب! سبحان الله هي الكلمات نفسها التي كان يقولها جهاز الأمن في النظام السابق والمدافعين عن الباطل. والسؤال ما هي الفرصة المطلوبة من الحكم لمدة أربع سنين ماذا يريد العلمانيون؟ التمكن من الحكم كما فعل أسلافهم من قمع وإبعاد للإسلام من الحياة بزعم إبعاد الإسلاميين حاليا.
إننا نعلم أنه لا يجوز، ولو ليوم واحد، الحكم بغير ما أنزل الله، فالإسلام واجب تطبيقه، وهو الدواء والشفاء وما أضاع بلادنا إلا هذه العلمانية التي يزمع أن تستمر في حكم السودان بالصورة الأمريكية البشعة، فيتكرر بذلك سيناريو السيسي في مصر. خيب الله مخطط الاستعمار الأمريكي والبريطاني، فما هي إلا أيام ويسعد الناس بإقامتها خلافة راشدة على منهاج النبوة إن شاء الله.
بقلم: الأستاذ عبد الله عبد الرحمن تنديلي
عضو مجلس حزب التحرير/ ولاية السودان
رأيك في الموضوع