لا يزال الأخذ والرد، والشد والجذب، هو المهيمن على الساحة السياسية في السودان مع استمرار حشود المعتصمين أمام القيادة العامة للجيش. فقد دفعت لجنة وساطة، قيل إنها من رموز قومية غير حزبية، بمقترحات للمجلس العسكري الانتقالي وقوى إعلان الحرية والتغيير، لتجاوز خلافاتهما بشأن تشكيل المجلس السيادي. حيث قدمت هذه اللجنة مقترحاً يشمل مجلساً سيادياً قوامه 7 مدنيين، و3 عسكريين، برئاسة رئيس المجلس العسكري الانتقالي، ونائبان أحدهما عسكري والآخر مدني. (العربي الجديد، الأناضول 03/05/2019). وقد تم رفض هذا المقترح، حيث (قال عضو بالمجلس العسكري الانتقالي في السودان، السبت، إن الجيش لن يقبل بأغلبية مدنية في مجلس مؤقت لتقاسم السلطة، معتبرا ذلك الأمر "خطا أحمر") سكاي نيوز 04/05/2019. وكان المجلس العسكري قد أعلن في وقت سابق عن تشيكلة لمجلس سيادي بسبعة عسكريين، وثلاثة مدنيين، رفضتها قوى الحرية والتغيير بحسب وكالة الأناضول في 30/04/2019م بينما تتمسك قوى التغيير بمجلس سيادي يتكون من 15 شخصاً، 8 مدنيين، و7 عسكريين. وبغض النظر عن قبول مقترح الوساطة، أو رفضه، فقد تبين أن الصراع في السودان قد تحول إلى دوامة من المقترحات والمقترحات المضادة.
إن أهل السودان لم ينتفضوا لإزالة نظام الإنقاذ لغياب مجلس سيادي، يغلب عليه الطابع العسكري، أو المدني، فكل المقترحات في وادٍ، ومطالب أهل السودان في وادٍ آخر، فقد خرج أهل السودان يبحثون عن حياة كريمة، عن العدل والإنصاف، خرجوا يطلبون حقهم في ضمان توزيع الثروات التي وهبهم الله إياها، وليس لفئة استأثرت بها، فأفقرت البلاد والعباد، وكل ذلك لتطبيق البشير النظام الرأسمالي، واتباع توصيات البنك وصندوق النقد الدوليين، وتنفيذ مخططات أمريكا، وبخاصة فصل الجنوب، مما أدى إلى فقدان الدولة لدخلها الكبير، من مواردها النفطية، (نحو 80% من موارد النقد الأجنبي)، فضاق العيش بالناس، فاندلعت شرارة الثورة في عطبرة، ثم انتشرت كالنار في الهشيم في كافة مدن السودان، تطالب برحيل النظام.
لقد اتهم المجلس العسكري قوى التغيير بأنها تؤلب المعتصمين أمام مقر القيادة العامة للجيش ضدهم، وأنها تدعو لاقتحام القصر الرئاسي، والقيادة العامة للجيش. بينما تتهم قوى الحرية والتغيير المجلس العسكري بعدم الجدية في تسليم السلطة لحكومة مدنية، وأنه يسعى للاحتفاظ بالسلطة لنفسه، ومن ثَمّ تكرار تجربة نظام الرئيس المخلوع عمر البشير. نعم، إن قادة قوى الحرية والتغيير، ومن ورائهم بريطانيا يعلمون أن هذا المجلس العسكري تابع لأمريكا، فسياسة أمريكا مكشوفة لكل ذي عينين، فهي تعتمد على رجالها في الجيش، وتطلب منهم الهيمنة على الوضع ولو بالقوة، بل وتضغط عليهم لبقاء السيطرة الأمريكية على النفوذ في السودان، ولهذا نرى تشبث المجلس العسكري الانتقالي بالسلطة، فمن جهة يستخدم المجلس أسلوب التهديد والمواجهة، مع قوى المعارضة والشارع، موجهاً تهديدات واضحة إليها، ومعلناً أنه سيواجه التفلتات الأمنية، ومن جهة أخرى، يؤكد على التمسك بالتفاوض، وبعدم رغبته في فض الاعتصام من أمام مقر الجيش بالقوة، ثم يصرح الفريق (برهان) بأنه سيشكل حكومة مدنية ولكن تحت إمرة للجيش.
إن سياسة أمريكا تقبل بالحكم المدني ريثما تتمكن من الانقلاب عليه، لإعادة عملائها في الجيش مرة أخرى، ثم ترمي بهم في قارعة الطريق. وللاطمئنان على سير خطتها، قامت أمريكا بالإيعاز لعملائها، ومنهم مجلس الأمن الأفريقي للتدخل في الأمر، فقد عبر المجلس عن عميق أسفه لعدم تنحي الجيش، وتسليم السلطة الانتقالية للمدنيين خلال 60 يوماً، واعتبره (التمديد الأخير للمجلس العسكري السوداني لتسليم السلطة للمدنيين).. وهكذا يلاحظ تواطؤ مكشوف وتسويفات لإطالة أمد المجلس العسكري في السلطة، حتى ترتب أمريكا أوضاعها للخروج من هذا المأزق الذي اضطرت للوقوع فيه.
وبالمقابل فإن بريطانيا، قطعاً لا ترغب في استمرار هذا المجلس العسكري التابع لأمريكا، بل ولا في وجوده في الحكم أصلاً، فمنذ الوهلة الأولى، عقب إعلان الانقلاب، أي في 12/04/2019، دعا وزير الخارجية البريطاني جيريمي هنت، إلى "انتقال سريع إلى قيادة مدنية شاملة وممثلة للجميع"، وأضاف في تغريدة على تويتر أن (مجلساً عسكرياً يحكم لمدة عامين ليس الحلّ) (الخليج أون لاين)، أما السفير البريطاني عرفان صديق فقد نشر في حسابه على تويتر تفاصيل لقائه مع نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي محمد حمدان حميدتي، حيث قال السفير: (التقيت نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي اليوم، ليس للتأييد أو منح الشرعية ولكن للتأكيد على الخطوات التي تريد المملكة المتحدة أن يتم اتخاذها لتحسين الوضع في السودان) (السودان نيوز 15/04/2019م). وحذَّر السفير البريطاني في الخرطوم من تدمير كل ما حققته الثورة السودانية، بسبب عدم الاستقرار الذي يسيطر على المشهد، علاوة على عدم تسليم المجلس العسكري السلطة للمدنيين، وعبر عن موقف بريطانيا بضرورة (اغتنام الفرصة للتغيير وبناء دولة شاملة بعد (30) عاماً من الحكم الفاشل). وبعد زيارته لمكان الاعتصام، عبر عن إعجابه بالثورة السودانية، فقد تحدث عن مستوى التنظيم، والتفتيش، والمراكز الطبية، والجداريات، واصفاً مقر الاعتصام بأنه (دولة داخل الدولة)، وبكل سخف وشعور بالانتصار قال: (إنه لشرف وامتياز لي أن أكون شاهداً عليها)، وأضاف: (لكن كل هذا في خطر، لأن عدم الاستقرار السياسي الذي يحوم حالياً على المشهد يهدد بتدمير كل ما تم تحقيقه حتى الآن). (السودان اليوم 01/05/2019م عن صحيفة الانتباهة). وقال: (لقد تحدثنا مع المجلس العسكري ومع قادة الاحتجاج والأحزاب السياسية والمجتمع المدني للدفع نحو المرونة والحل الوسط) (سودان بوست 01/05/2019).
إن تأثير بريطانيا لافت للنظر خاصة في تجمع المهنيين، وحزب الأمة بقيادة الصادق المهدي، إلا أن تأثيرهم يبقى محدوداً حتى لو دخلوا في الحكومة المدنية، ما دامت السيادة الفعلية لرجال أمريكا في الجيش.
أما المؤلم حقاً، فهو أنه بالرغم من خطورة سطوة المجلس العسكري الموالي لأمريكا، وهشاشة الحكومة المدنية المقبلة التي تنادي بها قوى إعلان الحرية والتغيير ومن ورائهم بريطانيا، فإنه من السهولة انقضاض الجيش عليها وإزالتها، كما حدث مع حكومة الصادق المهدي في أواخر القرن الماضي. وبالرغم من أن سير المجلس العسكري مع أمريكا، فيه خطورة شديدة على قادة المؤسسة العسكرية، التي سوف تلفظهم لفظ النواة بعد استنفاد طاقتهم في خدمتها، نرى بعضهم يتسابقون في إرضائها، بدل إرضاء الله سبحانه وتعالى، ملقين بأحكام الله عز وجل وراء ظهورهم. ونحن نعلم أن في المؤسسة العسكرية من الرجال المؤمنين الصادقين المخلصين الذين لو نصروا الله ودينه، لنصرهم الله في الدنيا، وأعلى مكانتهم في الآخرة، فلمثل هذا أيها الجند الصادقون فلتعملوا لنصرة مشروع الخلافة. وعلى المنادين بالحكومة المدنية وغيرها من الألفاظ المستوردة، والتي تبدو رنانة، أن يغيروا لهجتهم، ويطالبوا بالذي هو خير، والذي يرضي الله ورسوله، وينادوا بدولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، التي بها عزهم ومجدهم في الدنيا والآخرة. فهل يتدارك الجميع أمرهم إن كانوا يعقلون؟
بقلم: الأستاذ يعقوب إبراهيم (أبو إبراهيم) - الخرطوم
رأيك في الموضوع