في الوقت الذي كانت حركة الوسط السياسي في طرابلس تسعى على عجل لترتيب عقد ما سمّي "بالمؤتمر الجامع" في منتصف هذا الشهر لوضع خريطة الحل السياسي في ليبيا موضع التنفيذ "كما يدّعون"، في هذا الوقت قام حفتر بتحريك كتائبه المسلحة في اتجاه غرب البلاد (طرابلس العاصمة) واتخذ صحراء الجنوب معبراً له للوصول إلى طرابلس، جاعلاً من مدينة غريان نقطة ارتكاز له لوجود إحدى الوحدات في غريان انحازت له، وطارت الأخبار بسيطرة حفتر على غريان الواقعة على بعد 100 كلم تقريباً عن العاصمة. ولذلك لا بد من تسجيل الوقائع التالية:
- حفتر في تسجيل صوتي يعلن بداية ما سمّاه "عملية تحرير طرابلس".
- السراج رئيس المجلس الرئاسي يأمر القوات الجوية باستعمال القوة للتصدي لكل من يهدد العاصمة.
- السراج يأمر رئاسة الأركان والمناطق العسكرية برفع درجة الاستعداد والتصدي لكل من يهدد المدنيين.
- وزارة الداخلية تعلن حالة الطوارئ القصوى وتستدعي كافة الوحدات الأمنية والتصدي لأي خرق أمني في العاصمة.
- قيادة المنطقة العسكرية الوسطى "مصراتة" تأمر كتائب لها بالتوجه إلى طرابلس.
- مدينة مصراتة صاحبة أكبر قوة عسكرية في الغرب الليبي تعلن النفير العام.
- قوات حماية طرابلس تهاجم تجمعاً لحفتر جنوب طرابلس 80 كلم جنوب.
تلك هي أبرز أحداث يوم الخميس.
- في اليوم التالي سيطرت قوات الزاوية التابعة لحكومة الوفاق على كتيبة لحفتر في منطقة 27 غرب طرابلس وأسر كامل أعدادها وغنم عدتها.
- قيام سلاح الجو التابع للسراج بقصف تجمع لحفتر في منطقة "الهيرة" جنوب طرابلس.
- استرجاع مطار طرابلس بعد أن سيطرت عليه مجموعة تابعة لحفتر.
تلك هي مجمل الأحداث العسكرية...
وفي الوقت نفسه تحركت الدول الخارجية:
- أمريكا يصدر وزير خارجيتها بياناً "نتابع الوضع عن كثب في ليبيا وندعم المسار الذي تقوده الأمم المتحدة"
- بريطانيا تطالب بعقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي بشأن تطورات الأوضاع في ليبيا.
- الأمين العام للأمم المتحدة في طرابلس الجمعة: "الحل في ليبيا يجب أن يكون سياسياً من خلال الحوار".
- الأمين العام للأمم المتحدة: "لن يكون هناك مؤتمر وطني للحوار في هذه الظروف"...
في محاولة لفهم دلالات وأسباب ما يحصل فقد كانت كل الأنظار موجهة إلى عقد (المؤتمر الجامع للحوار الليبي – الليبي) في مدينة عوامس الواقعة على نقطة التقاء الحدود الليبية التونسية الجزائرية على مقربة من تواجد قوي للجيش الجزائري، الذي تعارض دولته أي سيطرة لحفتر على الأوضاع في ليبيا.
وكما هو معلوم فقد ذهب السرّاج في الشهر الماضي إلى أبو ظبي بدعوة رسمية للاجتماع بحفتر رغم أنه لم تنشر أي صورة للقاء ولكن نشر ما سمّي "بتفاهم بين الاثنين" على اقتسام السلطة في طرابلس بمعزل عن بقية الفرقاء الآخرين مما أحدث موجة من الغضب عند الآخرين على اختلاف مشاربهم. وقد عبّر أحدهم بأن هذا الاقتسام جاء على قاعدة "للذكر مثل حظ الأنثيين" بين حفتر والسرّاج.
وكان من المتوقع أن يتمكن غسان سلامة عن طريق المؤتمر الجامع في "غدامس" في هذا الشهر من إقرار ورقة التفاهم هذه ولكن يبدو أن أمريكا وأحلافها في المنطقة لم يرضهم ما تم الاتفاق عليه، فكانت هذه الحملة من حفتر، مستغلاً عجز الجزائر عن القيام بأي فعل على حدودها لانشغالها في أوضاعها الداخلية أو ربما لبعض التطمينات الفرنسية "المغشوشة" للجزائريين بأن الأمر لا يشكل خطورة عليهم، وميلاً من بعثة الأمم المتحدة لضرورة إعطاء أمريكا وعميلها حفتر الوقت والفرصة للقيام بتهديد طرابلس وبالتالي تهديد نفوذ أوروبا في ليبيا من أجل عقد "المؤتمر الجامع" تحت تهديد سلاح حفتر فتكون نتائجه كما تريد أمريكا.
فأمريكا تمارس سياسة الكذب الذي تدعي فيه بأنها مع الحل السياسي، فهي تدفع بحفتر على أبواب العاصمة طرابلس ولذلك كان وزير الداخلية "القوي في حكومة السرّاج" يصرّح متهماً البعثة الأممية بالتواطؤ مع حفتر ومتهماً دولاً عربية بدعم عملية حفتر هذه بل مصرحاً: "أننا لم نعد نثق في المجتمع الدولي وسوف نعتمد على أنفسنا".
وهذا يدل دلالة واضحة على أن الصراع في بلادنا بين أمريكا وما تبقى من أوروبا بات علنياً غير مستتر وهذا ظاهر في البيانات التي أصدرها السراج والأوامر التي أعطاها للوحدات العسكرية بضرورة التصدي لعملية حفتر. وكانت من نتائجها البارحة خسائر فادحة في مليشيات حفتر من الأسر والقتل وغنم العتاد.
وهذا قد يكون مدخلاً إلى حرب ضروس لا تبقي ولا تذر، وهو في حد ذاته مقصد أمريكا لأنها تعمل على إيقاع التدمير في بلادنا، وهذا لا نحتاج إلى عناء تفكير في إدراكه فهو مشاهد محسوس ملموس في البلاد العربية وخصوصاً في البلاد التي قامت فيها الثورات.
ولذلك أصبح طرد بعثة الأمم المتحدة من البلاد وعدم السماح لها بالتدخل في شؤوننا وعدم الاستجابة لإملاءات سفراء الدول الكبرى والتصرف بمعزل عن هؤلاء جميعاً هو طريق الانعتاق من ربقة الكفار في بلادنا، والالتزام بحكم الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ﴾.
فذلك هو طريق النصر، وليس نصر المؤمنين على الله بعزيز.
بقلم: الأستاذ أحمد المهذب
رأيك في الموضوع