بعد خمسين يوماً من انطلاقة التظاهرات، والاحتجاجات في السودان، وفي يوم الخميس السابع من شباط/فبراير 2019م، انتظمت تظاهرات في مختلف مدن السودان، وفي أحياء العاصمة الخرطوم، ولكن كان أكبرها حجماً، وأكثرها تنظيماً، تلك التي انطلقت من وسط الخرطوم، تحت شعار (الزحف الأكبر)، وعلى بعد مئات الأمتار فقط من مقر القصر الرئاسي، حسب ما وصفها المراقبون، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عزيمة أهل السودان في الاستمرار في المطالبة بسقوط النظام.
إلا أن هناك بعض الوقائع والأحداث قبل، وأثناء، وبعد تظاهرات الخميس الحاشدة، تصلح لأن تكون مؤشراً في اتجاه سير الأحداث، فقد استبق رئيس الجمهورية البشير جلسة مجلس الأمن، واستبق يوم التظاهرة، فدعا بعض الصحفيين إلى القصر الرئاسي، ليرسل من خلالهم بعض الرسائل، وصفها بعض الإعلاميين بالتصالحية لأن نبرة البشير قد تغيرت، حيث وصف البشير المتظاهرين بأنهم من الشباب، بعد أن كان يصفهم في السابق، بالمخربين والعملاء والخونة، وقال إن هناك دوافع دفعتهم للخروج إلى الشارع، ومن ضمنها التضخم، الذي أدى إلى ارتفاع الأسعار، وفرص التشغيل والوظائف المحدودة. وأضاف البشير أن غضب الشباب نابع من التطبيق الخاطئ لقانون النظام العام، بصورة بعيدة بمائة وثمانين درجة، عن مقاصد الشريعة الإسلامية. ثم ذكر بأن كل الصحفيين الذين سُجنوا فيما يتصل بالاحتجاجات سيفرج عنهم، وفعلاً تم الإفراج عنهم مساء السبت الماضي، ورغم هذا الاستباق إلا أنه لم يستطع أن يمنع قيام تظاهرة الخميس بالحجم الذي قامت به، ولم يمنع مجلس الأمن من تمديد ولاية فريق الخبراء، المعني بتطبيق العقوبات الدولية المفروضة على السودان، حتى آذار/مارس 2020م، وقضى القرار أن الحالة في السودان تشكل تهديداً للسلم والأمن في المنطقة، ما يستدعي أن تبقى المسألة قيد نظر المجلس، وهذا القرار صادر بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ما يعني جواز استخدام القوة لتنفيذه. وبالرغم من أن القرار لا يتعلق بالتظاهرات، إلا أن التوقيت واللهجة التي كُتب بها تفصح عن الرسالة السياسية التي يُراد لها أن تصل.
هذا وقد تقدم اثنا عشر عضواً من قيادات المؤتمر الوطني، بمحلية شرق النيل بالعاصمة، باستقالاتهم من عضوية حزب المؤتمر الوطني، وهذا مؤشر خطير، ونذير بتصدّع النظام وتآكله من الداخل، وحسب ما تناقلته الأسافير، فيبدو أن هذا ما ظهر من جبل الجليد، خاصة بعد انكشاف زيف النظام، وكذبه وتضليله، في قضية مقتل المعلم/ أحمد الخير، الذي مات تحت تعذيب الأجهزة الأمنية بمدينة خشم القربة بولاية كسلا شرق السودان، حيث أصدرت الأجهزة الأمنية حينها تقريراً مفبركاً قالت فيه إن المعلم أحمد الخير رحمه الله مات بطعام مسموم، أكل منه هو وبعض ضباط الأمن، وهي رواية لم تصمد أمام شهود العيان، وأهل القتيل، الذين استلموا جثمان الفقيد، مما اضطر النظام للاعتراف بأن الأستاذ مات بسبب التعذيب وليس التسمم، ثم سارعت الأجهزة الأمنية بالقول إنها ستحاسب كل من يثبت تورطه في الحادثة، وقامت بتشكيل لجنة برئاسة رتبة عليا (فريق) في الجهاز لتقصي الحقائق، ومحاسبة المتورطين. وفي السياق ذاته طالبت وزيرة التربية والتعليم الجهات العدلية بتسريع معاقبة الجناة المتورطين في تعذيب ووفاة معلم (خشم القربة) بولاية كسلا، الذي فارق الحياة داخل حراسات الأمن، بذات الشفافية والسرعة التي أجريت بها التحقيقات، رغم أنه لم تكن هناك سرعة كما ادّعت الوزيرة، وإنما ضغوط الشارع، وضغط أهل المقتول هو الذي أسرع بالأمر أخيراً.
وفي محاولة للتخفيف من الضائقة المالية، وانعدام السيولة، ومنعها عن أصحابها، هذه المسألة التي أخذت بتلابيب الحكومة بكلتا يديها، قامت الحكومة بضخ النقد من فئات المائة والمائتي جنيه، بعد فترة طويلة من التردد في ضخ أي سيولة نقدية، مخافة التضخم الذي بلغت نسبته أكثر من 70%، وخشية أن تزل قدم الحكومة فتهوي بالاقتصاد برمته. هذه المحاولة جعلت الحكومة مثلها مثل المُنبَتّ، فلا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى، فلم تصلح الحال، ولم توقف التظاهرات.
وفي محاولات مماثلة من الحكومة للتمسك بالسلطة، والتخفيف من حدة التظاهرات، أكد المدير العام لجهاز الأمن والمخابرات السودانية، أن "القوات النظامية مصطفة تماما وراء الشرعية"... مشيرا إلى أن "الشباب هم أبناء الإنقاذ، وينبغي الالتفات الجاد لقضاياهم الحقيقية ومطالبهم الموضوعية"، مؤكدا أن "الحكومة تنفّذ بنجاح حزمة معالجات شاملة للأوضاع الاقتصادية والخدمية الماثلة". (العربي الجديد 9 شباط/فبراير 2019م). مثل هذه التصريحات، لا تصرف النظر عن تورط النظام في وحل الظلم، والفساد، والتعذيب حتى الموت.
إن إصرار الحكومة على التشبث بالسلطة، رغم الظلم والفساد داخل النظام، وإصرار أهل السودان على إسقاطها، بحثاً عن العدل، جعل من الحالة التي يعيشها السودان ضبابية، لا يُرى لها مخرج إلا ذلك الضوء، الذي يلوح في النفق المظلم، والذي يشع من خلال وقفات حزب التحرير، ونداءاته، الذي يبث من خلالها روح الوعي في الأمة، وهو المخرج الصحيح الذي يتمثل في الإسلام العظيم، ودولته دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، حتى لا نعود لتلك التجارب الفاشلة التي مرت على السودان من قبل.
رأيك في الموضوع