أدلى الرئيس الفرنسي ماكرون بتصريحات ربما يكون العالم بعدها أمام نوع جديد من أنواع الصراع الدولي، الذي يحكم علاقة القارة العجوز مع أمريكا، ولنقل بأن ما كان تحت الطاولة أضحى فوقها فقد قال الرئيس الفرنسي: بأنه (بات على أوروبا أن تعمل على إنشاء جيش أوروبي لحماية أوروبا من روسيا والصين، بل وربما حماية أوروبا من أمريكا، وقال أيضا: حين أرى الرئيس ترامب يعلن انسحابه من اتفاقية كبرى لنزع السلاح، أُبرمت بعد أزمة الصواريخ في أوروبا في الثمانينات، من يكون الضحية؟ وأجاب أوروبا وأمنها)، وهو يقصد الاتفاقية التي وقعتها أمريكا وروسيا في منتصف الثمانينات من القرن المنصرم، بين ريغان وغورباتشوف، والتي نصت على حظر الصورايخ متوسطة المدى من الترسانتين الأمريكية والروسية، والتي أعلن ترامب انسحابه منها.
إن أوروبا باتت تدرك أكثر من أي وقت مضى، أن أمريكا كانت ولا زالت تقامر على الاتحاد الأوروبي ودوله مع روسيا أحيانا، ومع الصين أحيانا أخرى، وما الاجتماع الذي جمع وزيري خارجية البلدين والذي سيأتي بعده اجتماع الزعيمين الأمريكي والصيني عنها ببعيد، فإذا رأت أمريكا أن مصلحتها ترك أوروبا لابتزاز روسيا فعلت، وإذا رأت أن مصلحتها مع الصين بعد هاتيك المقاربة، أن تولي وجهها للاتحاد ودوله فعلت كذلك، سيما وهي ترى أن ترامب هذا المتهور ودولته من خلفه لا تكاد تقر على قرار، فما كان ممنوعا بالأمس القريب، ربما يصبح مباحا والعكس كذلك.
إن أوروبا لبثت عشرات السنوات أقرب ما تكون محمية أمريكية، فأمريكا منذ أن أخذت على عاتقها رعاية العالم بعد الحرب العالمية الثانية، أرادت تجييش العالم ضد الاتحاد السوفييتي حينها، وهذا ما دعاها إلى أن تقوم بدور القائد للعالم، فكانت تدفع الكثير لحماية أوروبا من أي أطماع روسية، فأنشأت حلف شمال الأطلسي، ليقوم بهذه المهمة، وقد كانت تستعمله وتدفع المبالغ الطائلة من أجل بقاء الحلف، ولم تكن تنظر لدول الاتحاد التي لا تكاد تدفع النزر اليسير من ميزانيته الدفاعية، ولكن الأمر تغير بعد مجيء ترامب المتهور، فإن أمريكا باتت تمن على أوروبا دفاعها عنها في وجه الصين وروسيا لعقود خلت، بل وتطالبها بزيادة مدفوعاتها للحلف، وإلا فإنها قد تعيد النظر ببقائها فيه.
إن تصريحات الرئيس الفرنسي والتي واطأته فيها المستشارة الألمانية ميركل، ليست جديدة، وإنما الجديد فيها أنها قفزت فوق الطاولة، بعد أن كانت تحتها، وإلا فإن فرنسا سبق لها أن ساقت تسع دول قبل عدة سنوات، من أجل إنشاء قوة تدخل سريعة أوروبية، وقبلها تم إدخال اليورو عملة أوروبية موحدة، تنافس الدولار في المعاملات التجارية العالمية، وليس ببعيد أنها في العام الفائت ومع دول الاتحاد أسست ما يسمى (الصندوق الدفاعي) بعدة مليارات بهدف تطوير قدرات القارة عسكريا، فالأمر تدركه فرنسا جيدا، وليس سرا ولكنه كما قلنا طفا على السطح، وقد تعمد الرئيس الفرنسي أن يتحدث بهذا الأمر قبل الاجتماع الذي جمعه بالرئيس الأمريكي، وقد غرد ترامب على صفحته قائلا: ربما بات على فرنسا أن تدفع مستحقاتها للحلف قبل أن تفكر في هذا الأمر.
إن ما دفع فرنسا وألمانيا للاستعجال في هذا الأمر هو تصرفات الدولة الأولى في العالم أحادية الجانب، ففي مجال الاتفاق النووي بين إيران والدول الست، ضربت أمريكا عرض الحائط بالاتفاق، مع علمها بأن المتضرر الأكبر من إنهاء الاتفاق هو أوروبا، مع ما يستتبع هذا الانسحاب من عقوبات نفطية ومالية تتضرر منها الدول والشركات الأوروبية التي دخلت السوق النفطية الإيرانية، بعد توقيع الاتفاق قبل ست سنوات، ثم ما لبثت أمريكا إلا قليلا حتى أعطت الدول والشركات مدة يسيرة، وأمرتها بالانسحاب من السوق الإيرانية، ومنعت الدول الأوروبية من استيراد النفط الإيراني، بالرغم من سماحها لبعض الدول والشركات بالتجارة مع إيران كتركيا والهند، وهذه الانتقائية هي ما حدت بأوروبا أن تفكر في مصالحها بعيدا عن أمريكا، وليس ببعيد عن أوروبا كذلك فرض الرسوم الجمركية على بضائعها، التي أفقدتها القدرة على المنافسة في السوق الأمريكية بعد أن ارتفع ثمنها. ووصل الأمر حده عندما أصبحت أمريكا تخاطب أوروبا وكأنها شركة أمنية، فيجب على أوروبا أن تدفع لنا مقابل حمايتها!
إن أوروبا (فرنسا وألمانيا) أصبحت تدرك أن أمريكا فضلا عن أنها تريد تفكيك الاتحاد ودوله، وهي لا تبدي انزعاجها من ذلك كما فعلت مع بريطانيا، إلا أنها كذلك تريد دول الاتحاد مجرد دول تابعة لها، لا تملك إلا أن تسلم لأمريكا بكل ما تريد، وأوروبا لا ترضى لنفسها هذا الدور، لهذا نرى انتفاضة فرنسا وألمانيا، لمحاولة استعادة السيادة المنقوصة الاقتصادية والعسكرية، وهي أي أوروبا تدرك أن القيم الرأسمالية لا تلقي بالا لأي أمر إلا للقيمة المادية، ولو أدى الأمر إلى التنازع والتطاحن، وما الحرب العالمية الأولى والثانية إلا جزء من طريقة التفكير الرأسمالي، والدول الرأسمالية وعلى رأسها أمريكا تدير علاقاتها مع الدول على هذا الأساس، فأمريكا ليست جمعية خيرية، وتدرك أيضا أن التطاحن والتنازع لا بد قادم، وبخاصة إذا وصلت الأمور إلى المصالح الحيوية لتلك الدول، وأن أمريكا بكبرها وغطرستها المعروفة، ربما تعجل من حتمية الصراع الذي لا تعلم نتائجه، وأن دولة مثل روسيا التي ذكرت صحيفة (نيويورك تايمز) أنها بدأت تنشر على أراضيها صواريخ متوسطة المدى قادرة على ضرب أوروبا الغربية، كل هذا وغيره أيقظ العسكرة الأوروبية، وجعلها تفكر بالانفكاك والبعد عن أمريكا ومصالحها وتفكر بنفسها بعيدة عن أمريكا.
إن التضييق الذي تمارسه أمريكا على العالم، هو جزء من حضارتها وعقيدتها، وإن الدول والشركات الأوروبية، بدأت تعاني من المزاجية الأمريكية، وللمثال فإن شركة سويفت الأوروبية وهي شبكة للتعاملات المالية والبنكية بين الدول، أصبحت بين مطرقة القانون الأوروبي وسندان أمريكا، فأوروبا تهددها بالعقوبات، إن هي علقت مشاركة البنوك الإيرانية في نظامها المالي، وأمريكا تهددها كذلك، إن هي بالمقابل أبقت البنوك الإيرانية ضمن معاملاتها، والاتحاد بموجب قوانينه يُجري عليها قوانين الاتحاد، وأمريكا بموجب العقوبات على إيران تمنعها من ذلك، وهكذا فإن المعاملات بين الدول الكبرى قد تصير إلى حائط مسدود تتعذر معه الحلول الوسط التي ما فتئ النظام الرأسمالي يحل مشاكله على أساسها، وأن أمريكا المتهورة كشرت عن أنيابها، ولم تعد تلقي بالا للاتحاد ودوله.
إن الصراع بين الدول حتمي وقديم قدم البشرية، ولن ينتهي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولكنّ أسبابه مختلفة، فقد يكون سببه مبدئيا كما في قتال المسلمين للكفار أو العكس، وإما أن يكون الصراع على مغانم وخيرات ومصالح، كما حصل بين الدول الغربية النصرانية في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وإن وجود دولة أولى في العالم تأخذ على عاتقها قيادة العالم، هو الضمانة لجعل العالم أكثر أمنا وأمانا، وقد بقيت دولة الخلافة ثلاثة عشر قرنا تقوم بهذه المهمة تدير الدنيا بعدل واقتدار، وتنشر الرحمة في جنبات الأرض حتى تآمر عليها الغرب بمعاونة خونة العرب والترك فهدمها وورثها فغاب العدل من الأرض كلها وأصبحت الدول تدار بشريعة الغاب التي تربط علاقة الأسد بالحمار، فالأسد سيأكل على كل حال وأي حال، والحمار سيؤكل على أي حال، وليس له حتى أن يختار الطريقة التي سيؤكل بها، وإن العلاقات بين الدول لن تستمر بهذه الدبلوماسية كثيرا، بل إنه سيظهر بل ظهر التنازع والتعارض بين هذه الدول في المصالح، والتي بدأت تلقي بظلالها على العلاقات بينها...
وخاتمة القول فإن الأمور ستسير من سيئ إلى أسوأ، ومكر الليل والنهار الذي تمكره أمريكا والغرب كله بالإسلام وأهله سيرتد عليهم لا محالة، وحينها ستعود الدنيا في خواء فكري وحضاري لن يملأه إلا الإسلام، فتعود الخلافة عدلا ونورا تضيء الدنيا بعدلها ورحمتها، وإن غدا لناظره قريب.
بقلم: الأستاذ أبو المعتز بالله الأشقر
رأيك في الموضوع