منذ بداية شهر تشرين الأول/أكتوبر كثفت الحكومة الإيطالية اتصالاتها وتصريحاتها بشأن عقد مؤتمر دولي خاص بدراسة الوضع الليبي والخروج بخارطة طريق للحل السياسي في ليبيا، واختيرت مدينة باليرمو في جزيرة صقلية المواجهة للسواحل الليبية مكاناً لانعقاد هذا المؤتمر.
وخرج علينا غسان سلامة مستبقاً المؤتمر بتصريح ينفي فيه إمكانية حصول انتخابات في نهاية هذا العام كما كان مقرراً في "مؤتمر باريس" المنعقد في أيار/مايو الماضي.
فقد طويت كل مخرجات مؤتمر باريس ولم ينفذ منها شيء بالكامل ولم يكن لها تأثير إيجابي على سير الأحداث في ليبيا، بل كل ما أدت إليه هو إعطاء حفتر مزيداً من الوقت لتدمير مدينة درنة، وهذا يبدو أنه هو المقصود حصوله دولياً. فقد رأينا وتيرة العبث الأممي بليبيا تتصاعد، فقد اتضح الدور الخطير الذي تقوم به بعثة الأمم المتحدة في ليبيا مع توقيع الوثيقة المشؤومة، وثيقة "الصخيرات" وما نشأ عنها من تشكيل حكومة السراج "اللقيطة" التي قادت ولا زالت تقود عملية العبث بالبلاد. إذ إنها منذ وصولها تحالفت مع عدد من مليشيات محلية في طرابلس بتقديمهم كحماة لطرابلس العاصمة، وألبستهم ثوب الشرعية بعد أن تم احتواء قادتها من طرف سفارات الدول الكبرى التي قامت بتسهيل وصول السلاح الحديث إلى هذه المليشيات بالرغم من وجود قرار دولي يمنع ذلك، مع ما قامت به حكومة السراج من تسهيل عمليات السطو على المال العام لصالح هذه المليشيات وقادتها.
وتضخمت هذه المليشيات وتورّمت حتى أصبحت سيفاً مسلطاً على رقاب الناس بسكوت ورعاية هذه الحكومة وبعثة الأمم المتحدة وما نتج من هذه الإجراءات وهذه السياسة من استفحال الأزمات وفي مقدمتها أزمة "نقص السيولة" التي هي في حقيقتها ليست سوى "كذبة عريضة"، فهذه الحكومة منذ وصولها زادت من وتيرة طباعة العملة بأكثر مما كانت عليه في الوقت الذي لم تكن فيه أزمة سيولة، فأصبحت كل هذه المليشيات وهذا الكم الهائل من الفاسدين الملتصقين بهذه الحكومة يمارسون عمليات النهب اليومي للمال العام في البلاد، وجرّ البلاد سريعاً لحافة الإفلاس، وهذا ما تسعى إليه بعثة الأمم المتحدة بقيادة غسان سلامة باعتبارها الوكيل العام للدول الاستعمارية؛ لأنهم بذلك يصلون بالبلاد إلى حالة الإنهاك التام، فيسهل السيطرة عليها، فغسان سلامة متعدد الولاءات بين فرنسا والدول الأوروبية الأخرى مثل بريطانيا وألمانيا وإيطاليا، مع سعيه الدؤوب لإرضاء أمريكا في شخص عميلها حفتر رأس العبث في البلاد.
غير أن هذه البعثة بعد مؤتمر باريس بدأت تراوح مكانها ولم تستطع فعل شيء بل تراجعت حتى عما كان مقرراً في لقاء باريس الدولي بفعل الانزعاج الإيطالي مما جرى في باريس، وقد خرجت بعض الصحف الإيطالية يومها بعناوين معبرة عن هذا من مثل "ماكرون يسرق ليبيا"، فلم يمض الوقت طويلاً إلا وإيطاليا تقرر أنها سوف تحضّر لعقد مؤتمر دولي لليبيا متذرعة بأمور عدة من مثل الهجرة غير الشرعية من ليبيا ومن مثل عرقلة عملية تصدير الغاز والنفط إلى إيطاليا وأوروبا وغيرها. ومنذ أيام اتخذوا قراراً في الاتحاد الأوروبي بإصرار من إيطاليا بأن لهم الحق في صيد الأسماك من شواطئ ليبيا وداخل مياهها الإقليمية.
هذا وقد ظهر على أعضاء هيئة الأمم نشاط محموم عندما اندلعت الأحداث الأخيرة تحت مسمى "عملية تطهير طرابلس"، وفي السياق ذاته تحركت حكومة السراج "الدسيسة" بمجموعة من التدابير والإجراءات حتى تقطع على المهاجمين الذريعة التي جاءوا من أجلها وهي عملية "تنظيف طرابلس"، ففي ظرف أسبوع واحد أصدرت هذه الحكومة العديد من القرارات تحت عنوان "الإصلاحات!"، ومع مضي شهر واحد تبين كذب هذه الإصلاحات وأنه لم يكن المقصود منها التنفيذ وإنما عرقلة "عملية تنظيف طرابلس"، بل على العكس من ذلك فقد تمادت هذه الحكومة في تمكين الوكيل العام للغرب "بعثة الأمم المتحدة" من الإمساك إدارياً بمؤسسات البلاد.
فقد أصدر منذ أسبوع قرار إداري من خمس مواد تنظيمية تحت مسمى "لجنة تنسيق الأعمال مع بعثة الأمم المتحدة وسفراء الدول الكبرى "المانحة"!! أقر فيها بأنه سوف يعيش عضو مسؤول من بعثة الأمم في كل إدارة من إدارات الحكومة في كل الوزارات ورأيه في المسائل الداخلية ملزم، وتعيين قيادة لهذه اللجنة مكونة من السراج وغسان سلامة. وبذلك يتم رسمياً تنصيب غسان سلامة "بريمر ليبيا"، حتى إنك عندما تقرأ هذه التوصيات تكاد تجزم أن الذي كتبها وأصدرها هو غسان سلامة وليس السراج!
وإذا ما قرأنا البيان الختامي لـ"مطبخ باليرمو" فلن نجد فيه ما يعد نجاحاً أبداً. بل سرعان ما دبّ الخلاف بين الدول الكبرى وانتقل الخلاف بين أشياعهم من الليبيين... فحفتر رغم رفضه الذهاب والمشاركة تراجع عن رفضه وحضر آخر الأمر عندما قرر السيسي الذهاب. وعقيلة صالح رئيس البرلمان لم يشارك، وخالد المشري رئيس مجلس الدولة الأعلى ذهب ولم يشارك في الجلسات العامة، وفي منتصف انعقاد المؤتمر انسحب الوفد التركي عندما جاء النظام المصري بشرط تسليم قيادة الجيش العليا منصب قائد أعلى للجيش إلى حفتر وطلب أن يستمر في هذا المنصب مدة خمس سنوات حتى يتسنى له فرصة ترتيب بنية الجيش كما تريد مصر، وعندها انسحب وفد الأتراك من الاجتماع.
وقد كان الحضور الأوروبي والعالمي في أغلبه على مستوى متدنٍ، ولهذا كان هذا المؤتمر فاشلاً وسيكون فشله أسرع من فشل ما سبقه من مؤتمرات ولقاءات دولية تتعلق بالشأن الليبي.
فإيطاليا ترى وتصرح بأن الشأن الليبي شأن إيطالي، وفرنسا متكالبة على التدخل في كل الأمور وخصوصاً فيما يتعلق بالجزء الجنوبي من البلاد. أما بريطانيا فسفيرها في ليبيا والمقيم في تونس يتجول في البلاد ويقابل حتى شيوخ المحلات "المخاتير" ويبحث الشأن العام.
ورغم كل النشاطات المحمومة التي أنتجت هذا اللقاء فإنه محكوم عليها بالفشل بفعل حقيقة الصراع الدائر على البلاد بين الدول الاستعمارية الكبرى؛ فها هي ستيفاني كراكسي نائبة رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس شيوخ إيطاليا تستبق انعقاد المؤتمر بتصريح تقول فيه: "إن رئيس الوزراء جوزيبي كونتي يجازف بنتائج عكسية للمؤتمر المزمع عقده في باليرمو حول ليبيا"، وتقول أيضاً: "إن هناك مجازفة كبيرة بأن تتحول فكرة جيدة إلى كيد مرتد "بوميرنغ" أي نتائج عكسية مع كل ما يترتب من أضرار لعملية الاستقرار في ليبيا"، وما أدلى به أنطونيو تاياني رئيس الاتحاد الأوروربي من مناشدة دول الاتحاد من "إيجاد موقف موحد للعمل في ليبيا". أما فرنسا فتجهد في جعل مؤتمر باليرمو يخدم نتائج مؤتمر باريس.
إن هذا الاهتمام الشديد من إيطاليا مع دعم تلقاه من أمريكا بالشأن الليبي، وما تمارسه فرنسا من أعمال ومؤامرات في الجنوب خاصة وعموم ليبيا عامة لهو دلالة واضحة على نوايا الشر تجاه هذه البلاد، وهو تعبير واضح عن حالة الصراع الجيوسياسي بين إيطاليا وفرنسا مضافاً إليه الصراع الإنجليزي الأمريكي المستمر على الهيمنة على البلاد وما فيها من خيرات وموارد اقتصادية وموقع جغرافي مميز كمدخل لأفريقيا مقابل القارة الأوروبية.
رغم ما يبدو واضحاً من اشتداد الصراع على البلاد وما يصحبه من فوضى عارمة وسيلان للدماء الطاهرة، وما يحاولونه من خلق العداوات بين القوى المحلية التي تلبس لبوس الجهوية والقبلية، غير أن الحل في البلاد ليس مستعصيا ولا شائكاً بل بالعكس تماماً فهو ممكن لأن المجتمع في ليبيا يخلو من كثير من المعوقات والمشاكل الموجودة في غيره من المجتمعات في بقية البلاد الإسلامية؛ فهو يخلو من الانقسام الطائفي أو الإثني، حتى القبلية ليست متجذرة فيه، فالاندماج والتمازج حاصل والحمد لله، ولولا بعض أصحاب النفوس المريضة ووكلاء الأجنبي هم من يعمل على خلق الأزمات وتعميقها سعياً لإرضاء سيدهم صاحب القرار الدولي الاستعماري وتسارع في جني المال الحرام من قوت الشعب حتى أصبح واقع الحال "ليبيون يحاربون ليبيين"، لولا هذا لكان الحل أقرب ولأمكن إيجاده وإقراره في زمن قياسي قصير.
ونحن نقول لأهلنا في ليبيا: صموا آذانكم عما يقوله لكم شياطين الغرب وما يروجه المرجفون في البلاد، واستمعوا لقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ - باستماعه لهؤلاء الشياطين - ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةُ ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾... فارجعوا إلى ذاتكم واستحضروا كتاب ربكم واستلهموا هدي نبيكم تفلحوا وتخرجوا مما أنتم فيه...
بقلم: الأستاذ أحمد المهذب
رأيك في الموضوع