السياسة هي رعاية الشؤون، والذي يقوم بها عمليا هو الدولة داخلياً وخارجياً، والأمة هي التي تحاسب الدولة على هذه الرعاية، ودائماً تكون وفق الأفكار التي تعتنقها الأمة، وعلى حسب قناعاتها، هذا هو تعريف السياسة، وهو وصف لواقعها الذي يرادف المعنى اللغوي في مادة ساس يسوس سياسة بمعنى رعى شؤونه، قال في المحيط: وسست الرعية سياسة أمرتها ونهيتها. والسياسة في الإسلام هي رعاية شؤون الناس بحسب أحكام الإسلام التي هي أوامر ونواه، جاءت بالوحي لسياسة حياة الناس، والذي يباشر ذلك هو خليفة المسلمين أو من ينيبه للقيام بأعباء الحكم وسياسة أمر الناس، والأمة تحاسبه إن هو قصَّر في رعاية شؤونها أو أساء تطبيق الإسلام عليها أو انحرف عن جادة الطريق، وهذا واضح في قول الله عز وجل: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وقول الرسول e: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ تَكْثُرُ قَالُوا فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ» رواه مسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ ....» رواه مسلم، وهكذا كان واضحاً للمسلمين ما هي السياسة، وكيف تكون، حتى هدمت الخلافة، وطبقت في بلادنا أنظمة الكفر السياسية، وحل الفكر السياسي الغربي بأفكاره ومفاهيمه السياسية محل الفكر السياسي الإسلامي، وصارت الأفكار الغربية المنبثقة عن عقيدة فصل الدين عن الحياة هي الأفكار التي تساس بها بلاد المسلمين اليوم بلا استثناء.
ولقد راجت في البلاد الإسلامية فكرة أن السياسة فن الممكن، ويقصدون بذلك الواقعية، أي الرضا بالواقع والتكيف معه، فالسياسة بهذا المعنى في نظرهم، هي التي تتعامل مع الواقع وتدور في إطاره ولا تخرج عنه، فهي سياسة الخنوع والانقياد للغير، والسياسة بهذا المعنى، أي بمعنى الواقعية هي التي يمارسها حكام البلاد الإسلامية اليوم، فهم يستأسدون أمام شعوبهم، ويستنعمون أمام الدول الاستعمارية الكبرى، وبخاصة أمريكا، فيقدمون لها فروض الطاعة والولاء، ويتسابقون في إرضائها على حساب شعوبهم المقهورة، فيقدمون التنازل تلو التنازل، حتى جعلوا ثروات المسلمين نهباً للدول الاستعمارية، فضيعوا البلاد وأفقروا العباد، فلا يمكن أن تطلق على هؤلاء الحكام صفة السياسيين.
ولو تم التسليم أساسا بهذا المعنى للسياسة عند الجميع لما وُجِد تاريخ ولما وُجِدت حياة سياسية، لأن التاريخ هو تغيير الواقع، والحياة السياسية هي تحويل الوقائع الجارية إلى وقائع أخرى. ولذلك كان تعريف السياسة بأنها فن الممكن بحسب فهم الناس لها، أي بمعنى الواقعية تعريفا خاطئا. ولكن من حيث أن كلمة ممكن تعني المعنى الحقيقي لها، وهو ما يقابل المستحيل، فإنها صحيحة لأن السياسة ليست فن المستحيل، بل هي فن الممكن فقط. فالأفكار التي لا تتعلق بالممكنات أو على الأصح لا تتعلق بالوقائع الممكنة والواقع فإنها ليست سياسة، وإنما هي فروض منطقية، أو مجرد خيالات حالمة أو تخيلات، فحتى تكون الأفكار أفكارا سياسية فلا بد أن تتعلق بالممكن. لذلك كانت السياسة فن الممكن لا فن المستحيل، فالمستحيل ليس سياسة والواقع والواقعية هو كذلك ليس سياسة، لأنه ضد التاريخ. ولولا تغير الأشياء حسب الممكنات لما وجدت سياسة ولما وجد تاريخ، فالتاريخ هو تغيير الواقع بواقع غيره. والرسول e حين كان ينظر إلى السياسة بأنها فن الممكن بمعنى غير المستحيل، وبمعنى غير الواقعية والرضى بالأمر الواقع، أوجد الإسلام مكان الشرك، وكانت أفكار الإسلام وأحكامه هي التي تعالج مشاكل الناس ووضعت مكان أفكار الكفر.
فالسياسي الحق هو الذي يحب الخير ابتداء لأمته، ويسعى لرعاية شؤونها بقناعاتها الراسخة، وأحكام مبدئها الصحيح، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويسهر على راحتها، ويسعى لأن تكون دولته هي الأولى والقائدة للأمم والشعوب، يبذل قصارى جهده من أجل الوصول إلى غايته مهما كلفه ذلك من عنت ومشقة.
فالتاريخ السياسي مليء يفهمه أصحاب الهمم العالية والنفوس الراقية، والقلوب الواعية، والعقول المستنيرة، الذين يبذلون ما يستطيعون من أجل الوصول للغاية التي ينشدون، والهدف الذي يرجون، فيحققون ما يراه الواقعيون مستحيلا، ولكنه ليس مستحيلا، وهم يبدعون في الوسائل والأساليب، والطريق واضحة أمامهم خطها الحبيب e وسار على هداه الراشدون والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما الخانعون الخاضعون لسياسات الغرب الكافر فلا يمكن أن يعوا السياسة، وبالتالي لن يكون لهم من صناعة التاريخ مكان غير مكان العبد الذليل، التابع الحقير.
إن الأمة اليوم تحتاج للتغيير والتغيير الجذري لتنهض مما هي فيه اليوم من الانحطاط والتبعية، فلا بد من عمل سياسي مبدئي يحرك الطاقة الكامنة في الأمة، يقودها إلى التغيير المنشود، وهذا لا يمكن أن يكون في ظل الرضا بالواقع الذي نعيش. إن سياسة الواقعية التي يسمونها فن الممكن إنما هي تكريس للواقع وليس عملاً سياسياً يؤدي إلى تغييره، مما يجب أن يدركه الجميع أن خلاصنا من هذا الواقع المرير هو أن تكون سياستنا مبنية على عقيدتنا، عقيدة لا إله إلا الله، محمد رسول الله ، وأن رعاية شؤوننا بالإسلام لا تكون إلا بدولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي بدأت بشائرها تلوح في الأفق. وهذا يقتضي العمل الجاد والمثمر في أوساط الأمة وبخاصة أهل القوة والمنعة للإسراع بقيام الدولة ونزول النصر، ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾.
رأيك في الموضوع