منذ أنْ هُدمت دولة الخلافة، وغاض شرع الله من الحكم في بلاد المسلمين؛ وتمزّقت بلادهم في كيانات هزيلة، ضمن حدود رسمها الكافر المستعمر، كيانات يحكمها حكام عملاء يحققون مصالح أسيادهم ليحافظوا على كراسيّهم المعوجة؛ من ذلك الحين غاب الراعي الحقيقي للأمة الإسلامية، غاب الراعي الذي لا يشبع حتى يشبع المسلمون، ولا ينام حتى ينام المسلمون آمنين مطمئنين، ومن ذلك الحين والكافر المستعمر يتحكم في بلاد المسلمين ومقدّراتها، ويفتعل الأزمات ويصنع المشاكل.
ومن المشاكل الموسمية المتكررة ما يقع فيه المسلمون ويشاهدونه من اختلاف في شهر رمضان من كل عام هجريّ، وهو تحديد اليوم الأول في شهر رمضان، وتحديد يوم العيد، فقد جعل الحكام العملاء هاتين المسألتين خاضعتين لإرادتهم، كي لا يصوم المسلمون جميعاً في يوم واحد، ولا يفطروا جميعاً في يوم واحد، ولا يفرحوا جميعاً بعيدهم في يوم واحد، متخذين في ذلك ذرائع ما أنزل الله بها من سلطان؛ كاختلاف المطالع، والاستناد إلى الحسابات الفلكية.
إن الإسلام لم يترك صغيراً ولا كبيراً من أفعال العباد إلا بيّن لهم حكمه، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾، وقد بيّن رسوله ﷺ الحكم الشرعيّ الواجب على المسلمين اتباعه في تحديد بداية رمضان وبداية شوال، فقال ﷺ في الحديث الذي رواه ابن عمر: «إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا»، وقال ﷺ في الحديث المتفق على صحته: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ»، بل إنّه ﷺ قد نهى عن الصيام حتى تتحقق الرؤية، وإنْ لم تتحقق فيتوجّب إكمال عِدّة الشهر السابق وهو شعبان؛ فقال ﷺ: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ»، ولو كانت هناك طريقة شرعية أخرى غير الرؤية لبيّنها ﷺ، وفي حال تعذّر الرؤية فإنّ الواجب إكمال عدة شهر شبعان ثلاثين يوماً، وهذا ما عليه جمهور علماء الأمة، والقول بالحساب الفلكي مردود بما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي ﷺ قال: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا».
وكذلك القول فيما أطلقوا عليه وصف "اختلاف المطالع"، فما دام أنّ القمر لجميع المسلمين واحد، والشمس واحدة، والأرض واحدة؛ فلا قيمة لاختلاف مطالع القمر زماناً أو مكاناً؛ لأنّ تولّده في أول كل شهر هجري يكون مرة واحدة، ومع ذلك لم يجعل الشرع الحنيف تولّده سبباً لبدء الصيام، ولم يجعل مطلعه (الزمانيّ أو المكانيّ) كذلك سبباً لبدء الصيام، وإنما السبب الشرعيّ الذي دلّت عليه النصوص الشرعية الصحيحة إنما هو رؤية الهلال.
وبناء على ما سبق تتجلى حقيقة أنّ اختلاف البلاد الإسلامية في الصوم والإفطار إنّما هو اختلاف سياسيٌّ خاضع لإرادة الحكام، وليس اختلافاً فقهياً، وهذا الاختلاف مرتبط بحدود سايكس بيكو وليس بالقمر، فهل يتصوّر عاقل أن يصوم المسلمون في الرمثا (الأردنية) على الحدود السورية، ويفطر أهل درعا (السورية) على الحدود الأردنية، أو العكس، وليس بينهما إلا نقطة حدودية نتجت عن الحدود التي فرضها الكافر المستعمر على المسلمين بعد هدم دولة الخلافة؟ أو أن يصوم أهل العين في الإمارات ويفطر أهل البريمي في عُمان، أو العكس، وليس بينهما إلا سياج سلكيّ يستطيع المسلمان في كل منهما أن يتصافحا من بين فجواته، ويكون أحدهما صائماً والآخر مفطراً؟! عن أي قمر يتحدثون؟! وعن أيّ اختلاف في مطلع القمر يتقوّلون؟! وقس على ذلك بقية المناطق الحدودية بين بلاد المسلمين، تلك الحدود التي فرضها الكافر المستعمر، وأوجد الحكام العملاء ليحافظوا عليها، ويحاولوا إقناع الناس باسم الوطن والوطنية، وما هي إلا دعوى ما أنزل الله بها من سلطان!
إنّ بدء صيام المسلمين جميعاً في يوم واحد، وفرحتهم جميعاً بعيد الفطر في يوم واحد؛ لهو مظهر من أهمّ مظاهر الأمة الإسلامية، فيبدؤون عامهم الهجريّ في يوم واحد، ويقفون على عرفات في يوم واحد، ويصومون عاشوراء في يوم واحد، كل ذلك مثلما يحكمهم خليفة واحد يقاتلون من ورائه ويتقون به، ومثلما يطبّق عليهم نظامُ حكمٍ واحدٌ، ويطبّقُ عليهم حكم شرعي واحد تتبنّاه دولة الخلافة، ويبدأ خليفتهم جمع الزكاة من المسلمين في جميع أنحاء الدولة في يوم واحد، فأحكام الإسلام جاءت للمسلمين جميعاً، ولم نرَ اختلاف تطبيق كثير من تلك الأحكام بين بلد وآخر إلا بعد هدم دولة الخلافة، وتمزيق المسلمين وإشعال الحروب بينهم، فرأينا حكاماً للمسلمين كثيرين، ورأينا لهم أعلاماً ورايات مختلفة، ولكل بلد منها عملته المختلفة عن باقي البلاد الإسلامية، ولكل بلد نظامه وأعياده.
لقد جعل الحكام العملاء في بلاد المسلمين أكبرَ همِّهم المحافظةَ على تمزيق الأمة، والحيلولةَ دون وحدتها، تنفيذاً لما يمليه عليهم أسيادهم المستعمرون الكفرة، فحرصوا على أن يفسدوا على المسلمين فرحتهم في مناسباتهم الدينية بحجج واهية، فيفرّقوهم في بدء صومهم، وفي يوم عيدهم، كما فرّقوهم في ولائهم، فاخترعوا لهم فكرة (الولاء للوطن) التي هي في حقيقتها ولاء لحاكم لا يحكم بما أنزل الله، وحاولوا إقناعهم أن يصوم كل بلد ويفطر بحسب مطلع بلده، وما هو إلا صوم وإفطار بحسب هوى الحاكم الذي ينفذ إرادة أسياده المستعمرين، واتخذ علماء يصدرون له الفتاوى بحسب إرادته.
لقد آنَ للمسلمين أنْ يدركوا حقيقة واقعهم السيئ الذي يعيشون فيه، ويتخذوا حيالَه إجراء الحياة أو الموت، تنفيذاً لأحكام الله سبحانه وتعالى، وطلباً لمرضاته، وسعياً إلى توحيد المسلمين الذين يعبدون ربّاً واحداً، ويتبعون رسولاً واحداً، ويقرأون قرآناً واحداً، ليحكمهم حاكم واحد بنظام واحد؛ خليفة واحد في دولة الخلافة على منهاج النبوة، التي بشّر بها رسول الله ﷺ، والتي يعمل لإقامتها حزب التحرير، فضعوا أيها المسلمون يدكم في يده لنعيد للأمة جميع مظاهر وحدتها ومنها توحيد يوم الصوم ويوم العيد.
رأيك في الموضوع