منذ أن بعث الله سبحانه وتعالى محمداً ﷺ برسالة الإسلام والصراع بين الإسلام والكفر على أشده، وقد بدأ صراعاً فكرياً بحتاً مدة ثلاثة عشر عاماً في مكة، وإنه وإن كان صراعاً فكرياً لكنه كان عنيفاً، إذ لم يترك الكفار أسلوباً من أساليب المقاومة والصد لهذا الفكر الجديد إلا اتخذوه، حتى تحقق الانتصار الفكري المؤزّر بالهجرة إلى المدينة المنورة، واتحاد القوة والسلطة مع الفكر الصحيح، فأضيفت مرحلة جديدة من الصراع إلى الصراع الفكري وهي مرحلة الصراع الدموي، بتأسيس أول كيان سياسي للإسلام في المدينة المنورة وتكوين جيش قوي يحمل رسالة الإسلام إلى الناس، فاستمر الصراع بشقيه: الفكري والدموي لستة قرون، والدولة الإسلامية هي الدولة الأولى في العالم، تتوالى عليها الانتصارات، فلم تهزم في حروبها، وكانت صاحبة التأثير الأكبر في العلاقات الدولية.
استمر ذلك التأثير وتلك القوة حتى أواخر القرن السادس الهجري حتى بدأ الضعف يدبّ في جسم الدولة الإسلامية، وبرز ذلك أكثر ما برز في استقلال الولاة بولاياتهم عن دولة الخلافة، ولم يبق للخليفة سوى بعض الشكليات، كالدعاء له على المنابر، وسكّ النقود باسمه، وشيء من الخراج يرسل إليه، وطمع فيها الطامعون، وكانت فرصة سانحة للدول الأوروبية للانقضاض على دولة الخلافة، فبدأت مرحلة الحروب الصليبية التي امتدت لما يقارب مائة عام، ذاق فيها المسلمون الويلات، وأصابهم من الذلة والهوان ما لم يكونوا يحسبون له حساباً، لكن سرعان ما عادت الأمة إلى حيويتها وقوتها وتمكنت من طرد الصليبيين من بلادها، ومع ذلك فقد تعرضت بعدها لغزو المغول، ووقعت مذبحة بغداد ثم سقوط دمشق بأيدي المغول، إلا أن الأمة تمكنت من الانتصار عليهم وطردهم، وعادت لسابق عزها ومجدها، وعادت هيبة الخلافة، وواصل المسلمون حمل رسالتهم إلى العالم بالصراع الفكري والصراع الدموي.
وفي منتصف القرن الثاني عشر الهجري، ومع ظهور الانقلاب الصناعي في أوروبا، ووقوف المسلمين أمامه مكتوفي الأيدي بدأت الدولة الإسلامية تتضعضع، واختلّ ميزان القوى بينها وبين دول الكفر، فأخذت تُنتَقَص من أطرافها، وتفقد أجزاء منها شيئاً فشيئاً، حتى عادت أحلام الأوروبيين تدغدغهم بالتفكير والتخطيط لهزيمة المسلمين، ومنعهم من التأثير الدولي، بل ولإزالة كيانهم من الوجود، فبدأوا يفكرون بحروب جديدة، لكن ليست كالحروب الصليبية الأولى.
اتفقت دول الكفر على القضاء على الدولة الإسلامية، واستخدموا في سبيل ذلك أساليب شتى، فأثاروا النعرات القومية والنزعات الاستقلالية في البلاد الأوروبية التابعة للدولة الإسلامية، وأمدّوهم بالسلاح والمال للثورة عليها والاستقلال عنها، كما حصل في بلاد الصرب واليونان، وقامت فرنسا باحتلال مصر ثم محاولة احتلال بلاد الشام لكنها هزمت ثم خرجت من مصر، وحاولت بريطانيا إيقاع الحروب المذهبية بين المسلمين بعد إنشائها كياناً مستقلاً للوهابيين وآل سعود، ثم حاولت فرنسا عن طريق عميلها محمد علي ضرب الدولة الإسلامية من الخلف، فأعلن استقلاله عن الخليفة، وحاول احتلال الشام، ولم يَحُلْ بينه وبين احتلالها إلا التوازن في الموقف الدولي.
ورغم فشل الدول الأوروبية في هزيمة دولة الخلافة عسكرياً بمحاولات ضربها من الخلف إلا أنهم نجحوا في أسلوب آخر، وهو الأسلوب الذي استخدموه في الصرب والمجر وبلغاريا واليونان بإثارة النعرات القومية والنزعات الاستقلالية، لذلك تبنّت الدول الأوروبية هذا الأسلوب في جميع البلاد التي تخضع للدولة الإسلامية، مع تركيزها على العرب والأتراك، وبدأت السفارات الإنجليزية والفرنسية في البلاد الإسلامية تثير النعرات القومية وتبث في الناس روح الاستقلال عن الدولة، وركّزوا على مركزين رئيسين، هما: إسطنبول؛ وبيروت.
لقد تمكنت دول الكفر عن طريق هذين المركزين من بث السموم القومية، والغزو التبشيري والفكري لعقول أبناء المسلمين، وأنشأت عن طريقهما عددا من الجمعيات الخيرية والأحزاب القومية التي كان لها الدور الأكبر في تمزيق الدولة الإسلامية، وساعد في ذلك أيضا إدخال القوانين الغربية إلى الدولة الإسلامية، وصدور فتوى بجواز إدخالها، فكان ذلك بداية للفصل بين الدين والدولة، وبث الأفكار العلمانية والديمقراطية، رغم كونها كفراً صراحاً، ورغم مخالفتها الصريحة للإسلام، فلم يكن إلا جاءت الحرب العالمية الأولى حتى تكون القاضية على الدولة الإسلامية، دولة الخلافة، واحتلت دول الكفر الكثير من أجزاء تلك الدولة فعملت مع الخونة من أبناء الأمة من الترك والعرب على فصل السلطنة عن الخلافة، ثم إلغاء الخلافة، واقتسمت دول الكفر بلاد المسلمين واستعمرتها بنوعي الاستعمار: العسكري والفكري، وما زالت الأمة الإسلامية مستعمرة استعماراً فكرياً في أكثر أجزائها، واستعماراً عسكرياً في بعض أجزائها.
لقد كان هدم الخلافة طعنة نجلاء في قلب الأمة الإسلامية، مزقها وجعلها لقمة سائغة للكفار، يعيثون فيها فساداً، يسفكون الدماء وينتهكون الأعراض وينهبون الثروات، فهل في ذلك من عبرة؟ نعم؛ الاستمساك بعروة الإسلام الوثقى، وجعله قضيتهم المصيرية التي يتخذون حيالها إجراء الحياة أو الموت، ونبذ القوميات والوطنيات، والانتباه إلى دور السفارات الأجنبية، والحذر الحذر من العملاء، فلم ينتصروا علينا بقوتهم، بل بضعفنا الفكري وضعف ارتباطنا بعقيدتنا، وبخيانة من بعض أبنائنا.
فهل للأمة من أمل في العودة لسابق عزها، واستعادة هيبتها؟
نعم، إنه حزب التحرير، الذي ضرب جذوره في بلاد المسلمين، وفي بعض دول العالم الأخرى، لقد شخّص الداء، ووصف الدواء، وأخذ على عاتقه إنهاض الأمة بإعادة خلافتها، والعودة لحمل رسالتها لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
رأيك في الموضوع