إنها دولة الخلافة التي جمعت المسلمين في كيان سياسي واحد، وجعلتهم يتنسمون عبق العزة والكرامة، يقودون العالم فيها بالعدل والرحمة، عاشوا فيها كما عاش معهم غيرهم في الهناءة ورخاء العيش بشكل لم يشهد له تاريخ البشرية مثيلاً.
نعم إنها هي.. التي تحطمت الآمال بهدمها، وسِيمَ المسلمون وغيرهم صنوف الذلة والهوان، وذاقوا أنواع الفقر والشقاء.
ذكرى.. لا نقف عندها كمثل الواقف على الأطلال، يبكيها.. وإن كانت تستحق أن نبكيها بالدم لا الدموع، ويتحسر عليها، وإن كانت مما يستحق أن يقضي المرء حسرة عليها، ويتذكر مآثرها.. وهل هناك أحق منها أن تُذكَرَ مآثرُها إن فعلنا، ولكنا نفعل ذلك لندرك واجبنا تجاهها، وليعلم المسلمون أنها وعد ربنا وفرضه، وبشرى رسوله e.
نعم نذكّر بها المسلمين ليعملوا لإعادتها، فيعيدوا فيها سيادة الشرع، يتساوى فيها الحاكم والمحكوم، يخضع فيها كل الناس لحكم الشرع، لا يخصّ الحاكم فيها نفسه بشيء دون باقي الرعية، بل لا يأكل حتى يشبعوا، ولا يذوق طعم الراحة حتى يطمئن عليهم، ولا ينام حتى يناموا آمنين مطمئنين. حاكم تلك الدولة لا يخصّ نفسه أو أقاربه بشيء دون الآخرين، لا تتصرف حاشيته باسمه ليأكلوا أموال الناس بالباطل، ولا يضربون بسيفه ظلماً وعدواناً، لا يحمي الظالمين في هذه الدولة قانون، حتى لو كانوا من بطانة الخليفة وحاشيته وأقربائه، دولة لا تكون فيها البلاد مزرعة للحاكم وعائلته، يستثمر فيها ليزيد ثروته المختزنة في بنوك الغرب.. بل يخضع فيها الجميع لأحكام الشرع.
نعم نذكّر بها المسلمين ليعملوا لإعادتها، فيعيدوا للأمة سلطانها المسلوب، فتصبح هي وحدها صاحبة السلطان تعطيه لمن تراه أهلاً لهذا التكليف، تكليف ومسؤولية وأمانة، وتحاسبه بشرع الله تعالى، وتأخذ على يد الظالم، وتأطره على الحق أطراً، لا يفرض عماله وولاته على الناس فرضاً، بل يستمرون في عملهم بمقدار طاعتهم لله تعالى وخشيته، وحسن رعايته لشؤون الناس ورضاهم عنه، فإن اشتكوا على أحدهم عزله الخليفة واختار لهم غيره ممن يخشون الله تعالى ولا يخافون فيه لومة لائم.. تطيع الخليفة وتسمع أمره ما دام مطيعاً لله تعالى، فإن عصى الله تعالى وأظهر كفراً بواحاً نزعت منه السلطان واستعادته لتعطيه من هو خير منه.
نعم، نذكّر بها المسلمين ليتذكروا أنّ عليهم واجب حمل الإسلام إلى الناس كافّة، ليخرجوهم من الظلمات إلى النور، ومن الشقاوة إلى السعادة، وليكونوا عليهم شهداء يوم القيامة بحملهم الإسلام إليهم، لا أن يكون الناس شهداء عليهم بأنهم لم يبلغوهم دعوة الله سبحانه ورسالة رسوله e.
نعم، نذكّر بها المسلمين ليقيموها ويُعلوا بنيانها، لتعود لهم هيبتهم بين الأمم، وتحترمهم الأمم الأخرى، يستغيث بهم المظلوم في كل مكان، ويلجأ إليهم الفقير والمسكين.. الهاربون من لظى أنظمة الكفر إلى نور الإسلام وعدالته، تستغيث بهم الأمم بوصفها كيانات سياسية وليس أفراداً وحسب، كما استغاثت فرنسا بخليفة المسلمين حين أسر ملكهم، يتقدم إليهم ملك الصين بتراب بلده على صحفة من ذهب ليبرّ القائد المسلم بقسمه فيدوس أرضهم؛ عوضاً أن يتغطرس رئيس الصين الحالي فيسوم المسلمين في تركستان الشرقية صنوف العذاب والإذلال والتشريد والتقتيل...
نعم، نذكّر بها المسلمين ليعيدوها فتكون سياجاً حامياً للمسلمين، لا أن يعيش المسلمون في كيانات مستباحة لدول الكفر، يصولون بجنودهم وطائراتهم في أرض المسلمين وسمائهم، كيانات هزيلة جعلت أرض المسلمين قواعدَ عسكريةً للغرب، كيانات ليست إلا أدوات لدول الكفر يضربون بها من شاؤوا ثم يضربونها متى شاءوا، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمّة، ولا يرعون لنا حرمة، ينهبون ثرواتنا لنعيش كفاف العيش وشظفه، أفلا نذكّر المسلمين بسياجهم الحامي، ودرعهم الواقي، دولة الخلافة التي ترتعب قلوب الكافرين لذكرها، وتعبث برؤوسهم الوساوس، وتملأ قلوبهم المخاوف حين ترفرف راية العقاب في سماء دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة وتصفقها الرياح، وحين يزمجر خليفة المسلمين بأن الجواب ما ترون لا ما تسمعون، وأن شفاء وساوسكم جيش أوله عندكم وآخره عندي...
نعم، نذكّر بها المسلمين ليكفّوا عن اللَّهاث وراء حطام الدنيا، ويرتقوا بأبصارهم إلى عز الدينا وفوز الآخرة، وتسمو نفوسهم برضوان الله إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فيسخّرون جهودهم وطاقاتهم لإرضاء الله تعالى بتحكيم شرعه وتطبيق سنة رسوله في دولة اسمُها يهزّ ما بين الخافقين، دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، فتأتيهم الدنيا راغمة، فيفيض الخير على أيديهم ليعم البشر والشجر والحجر والطير، وتأتيهم دول الكفر تقدّم فروض الطاعة، ويعودون كما بدأوا خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.
إنّ ما نذكّر به المسلمين وندعوهم للعمل له، والتضحية لأجله إنما هو عز الدنيا وفوز الآخرة، عقود مرّت على المسلمين بعد هدم خلافتهم وهم تائهون، نجح عدوّهم في إشغالهم بحطام الدنيا فلم ينالوا منها شيئاً، وجَرَوْا خلفَها جريَ الوحوش في البرية، ولم ينالوا غير ما قسم لهم منها، وفاتهم أنهم قد خسروا الكثير الكثير، ونجح عدوّهم في إشغالهم في أنفسهم فتمكّن منهم، فليتذكروا كيف كانوا قبل هدم خلافتهم، ولينظروا كيف صاروا بعده، أفلا تستحق الخلافة منكم أيها المسلمون أن تشتاقوا لها فتضحوا من أجل إعادتها، فتفوزوا وتفلحوا، فلتتذكروا ولتنهضوا... فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
رأيك في الموضوع