شهر رمضان هو شهر عظيم، فهو شهر الخير والبركة، والقربى والصلة مع الله عز وجل، شهر الانتصارات والرحمات والصلات بين الناس، شهر المغفرة والعتق من النيران.
وإن من المعاني العظيمة في هذا الشهر الإيماني أنه يجسد ويرسّخ معنى الأمة الواحدة لأمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. ويظهر هذا المعنى في جوانب عدة أولها: العبادة الواحدة في بدايتها ونهايتها، وفي كيفيتها؛ فالمسلمون على وجه الأرض يبدؤون صيامهم في يوم واحد، وينتهون منه في يوم واحد. قال عليه الصلاة والسلام: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعَدَدَ» رواه مسلم. والخطاب هنا للمسلمين جميعا دون تمييز ولا تفريق ولا تخصيص. وما يخصّ الأحكام من حيث الأداء، هو كذلك لكل المسلمين دون تفريق ولا تخصيص إلا ما خصه الشرع بالدليل وهو - أي التخصيص - أيضا لكل المسلمين دون تمييز كالإفطار للمريض أو المسافر أو أصحاب الأعذار: ﴿أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾. والخطاب في الآية الكريمة جاء عاما لكل المسلمين على وجه الأرض دون تمييز. والأمر الثاني: هو أن الأمة الإسلامية جميعا في مشارق الأرض ومغاربها تنطلق من عقيدة واحدة، وأسس شرعية واحدة، وأحكام واحدة، وتستند إلى أصل واحد هو القرآن والسنة أي إلى الوحي. قال تعالى: ﴿وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، وقال عليه الصلاة والسلام: «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ» رواه مسلم، وفي رواية: «إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ» رواه الحاكم في المستدرك.
فالأصل الشرعي عند كل المسلمين هو واحد في أخذ الأحكام، ولا يوجد أصل آخر كالعقل أو التشريعات البشرية أو التشريعات السابقة المحرفة. والأمر الثالث: هو أن المسلمين جميعا تتجه قلوبهم إلى رضا الله عزّ وجل، أي إلى رب واحد، وهذا يجسد معنى الأمة الواحدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾. فهذه المعاني في بداية العبادة وكيفيتها وأصولها المستندة إليها، وفي القربى والغاية العظيمة منها تجسد جميعا معاني الأمة الواحدة، وتقوي أواصرها. والحقيقة أن هذا الأمر لا يوجد إلا في هذه الأمة الطيبة التي وصفها ربها فقال سبحانه: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾. وشبهها بالشجرة الطيبة؛ أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها فقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾.
إن معاني الأمة الواحدة تترسخ في كل أمور دينها، عقيدة وأحكاما، وفي جميع مظاهرها العملية، ولا يوجد هذا الأمر إلا عند هذه الأمة، فاليهود والنصارى متفرقون مشرذمون في عقيدتهم وعبادتهم ومشاعرهم، ولا يوجد بينهم أي رابط، ولا دافع للوحدة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾. ويقول أيضا: ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ﴾. فاليهود والنصارى عقيدتهم ليست متجانسة؛ لا بين المذهب الواحد، ولا بين المذاهب المتعددة، فالأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية، تنقسم كل منها إلى مذاهب عدة متناقضة ومختلفة، عدا عن اختلافها فيما بينها كمذاهب رئيسة. فمنهم من يقول عيسى ابن الله، ومنهم من يقول عيسى هو الله.
وفي الختام نقول: بأن هذه الأمة واحدة في كل أمر من أمور دينها؛ إلهها واحد، ورسولها واحد وقرآنها واحد، وسنة نبيها واحدة، وقد نقل قرآنها بشكل متواتر، دون تحريف ولا تخريف، ونقلت سنة نبيها وحفظت جميعا، وستبقى كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وإن هذا لدافع عظيم ونحن في هذا الشهر العظيم يدفع الأمة للوحدة بين أقطارها؛ لتكون دولة واحدة تحت راية واحدة، تماما كما كانت عبر عصور طويلة على مدار التاريخ؛ منذ إقامة الدولة الإسلامية وحتى آخر عهدها. فنسأله تعالى في هذا الشهر الكريم، شهر تعزيز الوحدة وتقوية أواصرها بين كافة الشعوب والأعراق؛ أن يجمع هذه الأمة مرة ثانية في دولة واحدة لتكون أمة واحدة كما كانت. اللهم آمين.
رأيك في الموضوع