إن من أبرز ما يميز الإسلام كمبدأ هو محاربته للفردانية والأنانية، ففي الوقت الذي يوجب الإسلام على الفرد القيام بشؤونه الخاصة وإصلاح نفسه وضبط سلوكه، فإنه في الوقت ذاته يدفعه للاهتمام بغيره، ويُوجب عليه القيام برعاية مصالح الآخرين من حوله في مجتمعه، بل ويمتد هذا الاهتمام إلى أن يشمل الناس جميعا بوصف الإسلام رسالة عالمية تهدف إلى استنقاذ الإنسان من براثن الجهل والضلال إلى نور الهداية والصلاح.
وفي شهر رمضان المبارك تتجلى الكثير من المشاهد التي تفرض على المسلمين أن يتدبروها ويمعنوا النظر فيها لتكون معيناً لهم على تغيير واقعهم، بما يسهم في أخذ دورهم والقيام بالمسؤوليات الملقاة على عاتقهم بوصفهم أمة، وأولى علامات الوعي والإدراك أن يخرج المسلم من عباءة الفردية الضيقة، ويرفع رأسه للأفق الواسع ليدرك أنه جزء من أمة كريمة وعريقة.
يشكل قوله ﷺ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» أساس كل مسؤولية والجهة المنوطة بها، بداية من رأس الهرم في سلم هيكل الدولة المتمثل بالحاكم أو الخليفة ثم تتنقل في مستوياتها إلى أن تستغرق أفراد المسلمين فرداً فرداً، رجلاً أو امرأة.
ولأن المسؤولية متعددة في مستوياتها واتجاهاتها، فإنه من الطبيعي أن تتزاحم الأولويات عند القيام بتلك المسؤوليات، ولذلك لا بد من وجود ميزان ومعيار لترتيب تلك الأولويات، ولا يترك الأمر لأهواء الإنسان ورغباته، لذلك جاء قوله تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾، ليرتب سلم الأولويات عند الإنسان المسلم، فجعل الإيمان والجهاد مقدماً على أعمال السقاية والخدمة للحجيج وعمارة بيت الله الحرام، في بيان واضح كيف ترتب الأولويات، فالفروض أولى من النوافل، والأصول مقدمة على الفروع.
وبالنظر إلى واقع المسلمين اليوم، تتشعب القضايا وتتشابك المعالجات، لذلك ينبغي ترتيب الأولويات للخروج بأمان مما يعانونه من مشكلات، وفي قمة سلم الأولويات تقف قضية تطبيق الإسلام وبناء كيان المسلمين، دولة واحدة تجمعهم وتحدد هويتهم ومكانتهم بين الأمم، فمن غير المقبول في رمضان وغير رمضان الاهتمام بقراءة القرآن وإحسان تلاوته طلباً للأجر فقط بينما أحكامه معطلة وحدوده يعتدى عليها، ومن غير المقبول أن يُفرق بين وجوب إقامة الصلاة وبين وجوب الحكم بما أنزل الله، وبين وجوب الصيام ووجوب نصب إمام، وبين فرض الحج وفرض الجهاد، لأن أحكام الله آخذ بعضها برقاب بعض، جاءت لتعالج حياة الفرد والمجتمع والدولة.
وتبرز أهمية وجود الدولة في الإسلام بوصفها الكيان التنفيذي لمجموعة القناعات والمقاييس والأحكام التي جاء بها الإسلام، وحصر التطبيق في الأحكام والمعالجات المتعلقة بالجانب الفردي للإنسان كالعبادات والأخلاق، يجعل جل أحكام الإسلام معطلة، وإلا كيف يمكن العمل بأحكام المعاملات الاقتصادية والاجتماعية، وأحكام الجهاد في سبيل الله، والأحكام المتعلقة بالسياسة الخارجية، وأحكام العقوبات، ونظام التعليم وصياغة المناهج والإعلام، والكثير الكثير بما يفوق أربعة أخماس أحكام الإسلام تبقى معطلة في حال عدم وجود الدولة، يقول النبي ﷺ: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ بعدي خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ»، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ»، ومما يزيد من تلك الأهمية جعل الحفاظ على كيان الدولة من الأهداف العليا للإسلام، كما في قوله ﷺ: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ، فَاقْتُلُوا الآخِرَ مِنْهُمَا»، وقوله ﷺ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيْعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاَعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ»، الأمر الذي يوجب على المسلمين اليوم جماعات وأفراداً وعلماء، أن يعيدوا النظر في واقعهم، والحاجة الملحة لاجتماعهم في كيان واحد، فوق كون هذا الأمر والعمل واجباً شرعياً يأثم المسلمون بتقصيرهم في القيام به.
وفي قضية من أبرز قضايا المسلمين وهي قضية فلسطين تبرز إشكالية ترتيب الأولويات، حيث يمارس الحكام أعمال التضليل والإلهاء للأمة وحرفها عن طريقها نحو تحرير فلسطين، وتفريغ طاقتها في أعمال هامشية لا تحقق الهدف ولا تنجز الغاية.
ذلك النظام الأردني صاحب الوصاية المخرومة، يجعل جل اهتمامه منصباً على أعمال الترميم للمسجد الأقصى، وتجديد فرشه وسجاده، وذلك النظام الإيراني يتمسح بالمسجد الأقصى بتأسيس ما يسمى بجيش القدس، والاحتفال كل عام بيوم القدس في الجمعة الأخيرة من رمضان، والنظام المغربي يدعي رئاسة لجنة القدس، والنظام التركي الذي يضع الخطوط الحمر بلا أي معنى أو أثر على أرض الواقع، في تقصد واضح لحرف وتضليل الأمة بدل العمل الجاد على فك قيد المسجد وتحريره وكل فلسطين وتطهيره من دنس يهود.
أما في البقاع التي يعاني فيها المسلمون كالأويغور في الصين، والروهينجا في ميانمار (بورما)، والمسلمون في الهند وأفريقيا، فبدل العمل على نصرتهم، ورفع الظلم عنهم، وحقن دمائهم وصون أعراضهم، يحرف الحكام البوصلة عبر توجيه المسلمين وتفريغ طاقاتهم بالأعمال الخيرية والمساعدات الإنسانية، رغم أن تلك الأعمال حسنة إلا أنها ليست الطريقة الصحيحة لإنهاء معاناة إخواننا المسلمين.
على المسلمين اليوم أن يرتبوا أولوياتهم كما يحب الله ويرضى، وألا يسمحوا لحكامهم وأدواتهم أن يحرفوا بوصلتهم، ويأخذوهم في طرق ملتوية لا طائل منها، فالصيام شاهد على وحدة الأمة، وقيام الليل دعوة للقيام والنهوض من جديد، فاجعلوا رمضانكم هذا آخر رمضان تحيونه بدون دولة تطبق كتاب ربكم وسنة نبيكم وتحقق فيكم وعد الله سبحانه وبشريات رسوله ﷺ فتعيدوا سيرتكم الأولى وتحملوا الخير والنور للعالمين.
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع