لا نريد الدخول في تفاصيل صنع القرار السياسي في السعودية، وصراع الأجنحة القديم في الأسرة الحاكمة، ولكن المعروف عموما أن تغريدات "مجتهد" على التويتر تحظى بصدقية، كما أثبتت الوقائع. من هنا تكشف تغريدات "مجتهد" الأخيرة عن الاجتماعات المكثفة لزهران علوش في العاصمة الأردنية مع المخابرات الأمريكية والسعودية والأردنية، لبحث مرحلة ما بعد الأسد وكيفية التصدي "للخطر الجهادي" المتمثل بالجماعات "المتشددة" كتنظيم الدولة والنصرة وأحرار الشام، عن خطورة المرحلة القادمة. هذه اللقاءات في العاصمة الأردنية تأتي بعد تصريحات لافتة لعلوش في مقابلته مع وكالة ماكلاتشي الأمريكية سعى فيها للتبرؤ من الشعارات "المتشددة" التي أطلقها من قبل في الداخل السوري، يندد فيها بالديمقراطية، ليرسل رسالة طمأنة إلى الغرب بأن علوش رجل معتدل مستعد حتى لرفع العلم الفرنسي بدلا من راية التوحيد.
ولا يخفى أن هناك الكثير من التساؤلات التي تطرح نفسها بعد قيام جماعة من الحشد الشعبي في العراق بحرق مقاتل من تنظيم الدولة تحت شعارات طائفية تُذكي الأحقاد الطائفية، وتطاير صواريخ سكود من الحوثيين باتجاه الجنوب السعودي في خميس مشيط وجازان ونجران، مع استمرار غارات سلاح الجو السعودي على الحوثيين وأنصار علي عبد الله صالح في اليمن، هذه الغارات التي تتسبب في قتل الأبرياء وتدمير العديد من الأهداف والمنشآت المدنية.
وفي لبنان تنادى بعض شباب "السنة" إلى تشكيل "كتيبة الفاروق عمر" للدفاع عن عرسال (السنية) في وجه "لواء القلعة" (الشيعي) الذي تشكل من العشائر "الشيعية" في بعلبك - الهرمل تلبية لنداء زعيم حزب الله حسن نصر الله بغية تحرير عرسال وجرودها من "المسلحين التكفيريين"... أما في ليبيا فيتساءل المراقبون عما وراء ظاهرة نشوء وتوسع "تنظيم الدولة"، وتحذر صحيفة الواشنطن بوست من أن التنظيم قد يتخذ من ليبيا قاعدة يشن منها هجماته في شمال أفريقيا، بينما دعا وزيرالدفاع الإسباني، بيدرو مورينيس، في مقابلة نشرت السبت 6/6/2015م إلى التدخل عسكريا في ليبيا لوقف تنامي خطر التنظيم. ونقلت الأنباء خبر قيام مسلحي التنظيم بإعدام رب أسرة ليبي في درنة بعد اتهامه بالردة لانضمامه إلى الصحوات، كما سبق ونشرت صور يقوم فيها مسلحو التنظيم بذبح نصارى من إثيوبيا ومصر في ليبيا، هذا فضلا عن ممارسات استرقاق نساء أيزيديات في شمال العراق، مما فرض أسئلة مصيرية عن المستقبل القاتم الذي قد يحل بنصارى المشرق أو حيثما وصلت سيطرة التنظيم.
ومما زاد الأمر قتامة، عند من يصنفون "أقليات" (وهذا تصنيف نرفضه ولنا فيه تفصيل في موضع آخر)، تصريح أبي محمد الجولاني في مقابلته مع أحمد منصور على قناة الجزيرة أن على العلويين والدروز التوبة من الشركيات، فإن فعلوا ذلك أعطاهم الأمان، وأنه أرسل إليهم دعاة لتصحيح عقائدهم. وهذا ما جعل البعض يتساءلون هل سيصحح عقائد النصارى وغيرهم من غير المسلمين بإجبارهم على تركها كشرط لإعطائهم الأمان؟ ومن فوضه أو كلفه بذلك، فقد عاش أجداد هؤلاء في كنف الدولة الإسلامية دون أن يُفرض عليهم ترك عقائدهم؟
من الطبيعي في ظلال هذه الأجواء أن تتشاءم النفوس من هذه الأحداث وما تنذر به من مستقبل قاتم يفرض أسئلة قاتمة عن المصير، خاصة في ظل ترويج إعلامي نشط لمقولات "تفتيت المفتت" وأن الدول الغربية، وعلى رأسها أمريكا، لا تمانع، بل تسعى، لمزيد من التقسيم، وأن ما جرى في جنوب السودان لم يكن إلا البداية لمخطط أوسع يهدف إلى الحيلولة دون وجود كيانات كبرى، نسبيا، من شأنها أن تصبح منطلقا لدولة قوية قد تهدد المصالح الغربية في المستقبل.
إن الإسلام رسالة رحمة وعدل للعالمين وليس فقط للمسلمين، والإسلام لا يرضى بإكراه غير المسلمين على الدخول فيه، وإن كان يفرض عليهم العيش في ظل أحكامه، هذه الأحكام التي تقيم القسط بين الناس، وترعى شؤونهم بالتشريع الرباني المبرَّأ من الهوى ومن الأغراض الشخصية التي تصوغ التشريعات الوضعية في الحضارة الغربية وغيرها من الحضارات البشرية لخدمة مصالح واضعيها من المتحكمين برقاب العباد، الناهبين لثروات البلاد والعباد بغير وجه حق. كما أن دولة الخلافة تجمع وتوحد بين الناس وترفض وتحارب كل منحى لإثارة النعرات التي تهدد السلم المجتمعي، فالمسلمون لهم أن يتناقشوا في الاجتهادات الفقهية الفرعية ما شاؤوا دون أن يرفع أحد عصا التهديد على من يخالفه في الرأي والكل يخضع لحكم الشرع، كما هو مثبت في القواعد الأصولية والمدونة في الدستور الجامع. والإسلام يهدف إلى أن يستظل الناس، كل الناس، بظل أحكامه في أمن وأمان، وغير المسلمين من أهل الذمة آمنون على أنفسهم وعبادتهم وأموالهم لا ينتقصون من ذلك شيء. والله سبحانه يأمر بأداء الأمانة، وإقامة العدل والإحسان، قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾ [النساء: 58] ، وفَضَّل أمة الإسلام وجعلها خير أمة أخرجت للناس، قال سبحانه: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ﴾ [آل عمران: 110]، ووعد سبحانه الدولة الإسلامية - إن هي أقامت دينه وحكَّمت شريعته - بالنصر والتمكين في الأرض، فقال عز وجل: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾. [الحج: 40-41]
نعم إن دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة تجمع بين المسلمين في عبادتهم لربهم، بغض النظر عن الاجتهادات الفرعية وتعدد الأفهام، فالكل يعلم أن العقيدة الإسلامية تقوم على القطعي اليقيني الذي لا جدال فيه، وأن الأحكام الشرعية منها ما هو قطعي يقيني لا خلاف فيه ولا يسوَّغ الخلاف فيه، ومنها ما هو ظني يقوم على دليل ظني قد تتعدد الأفهام فيه فلا حرج ولا ضير بل الشرع يجيز الاجتهاد الظني في موارده. ولكن كل هذا لا يحول دون وحدة صف المسلمين في طاعتهم لربهم وجهادهم في سبيل إعلاء كلمة الله، وفي حفظ ذمة نبيهم لغير المسلمين ما لم ينقضوا عهد الذمة بخيانة أو سواها. وهذا كله متضمن في الوثيقة "الدستورية الأولى" التي عقدها رسول الله مع أهل المدينة المنورة، من مسلمين وغير مسلمين، في فجر الدولة الإسلامية الأولى، وقد أقام الرسول الدولة بعد أن هدم العصبيات الجاهلية التي تفرق الناس، وصهرهم في بوتقة العقيدة الإسلامية، أما غير المسلمين فكان التعامل معهم على أساس "لا إكراه في الدين" وأن الدولة ترعى شؤونهم كسائر المسلمين دون تمييز، ولا يفتنون عن دينهم.
هذا هو سبيل المسلمين ووحدة كلمتهم، وما عدا ذلك من دعاوى شاذة تتسبب في فرقة المسلمين وتصل إلى هدر الدماء واستحلال الأموال، فهذا يخالف قول الرسول في حجة الوداع: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض». فنناشد المسلمين جميعا الاعتصام بحبل الله المتين، والابتعاد عن مخططات أعداء الدين والأمة، ولزوم مواجهة كل من يدعو إلى الفتنة والتفرقة، وخير سبيل إلى هذا كله إقامة الخلافة على منهاج النبوة التي بشر بها عبد الله ورسوله محمد r.
رأيك في الموضوع