في حوار له مع صحيفة "المغرب" التونسية بتاريخ 9 حزيران/جوان 2015 قال الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة "إن تونس دولة إسلامية" مستشهدا بما ورد في الدستور من "أن الدولة تستند إلى الإسلام"، معتبرا أن دور حركة النهضة اليوم ليس التغيير الجذري بإحلال دولة مكان أخرى وإنما هو إصلاح الموجود باعتباره قابلا للإصلاح. ولا أظن أن الشيخ راشد الغنوشي يعني ما يقول بهذا الاستدلال لأنه لو صح أن مجرد التنصيص في الدستور على أن الإسلام دين الدولة، لكانت مصر دولة إسلامية على اعتبار أن دستورها يقر بأن الإسلام دين الدولة، وكذا حال معظم الدول القائمة في العالم الإسلامي. ويتضح أكثر فكر الشيخ ومنهجه في فهم الإسلام في قوله "لا نتجاوز حدود الله، ولا نذهب للحرام، فما حرمه الله حرام وأيضا لا نتجاوز القانون التونسي لأننا ملتزمون به كما نلتزم بالدستور ونعتقد أنهما لا يخالفان الإسلام". فإذا كان الشيخ يعتقد أن قوانين تونس ودستورها لا يخالفان الإسلام، فهل هذا يعني أن البنوك الربوية المنتشرة في البلاد بمقتضى القانون والدستور عملها مشروع لا يخالف الإسلام حسب رأي الشيخ؟! وهل الخمارات ودور الدعارة وحق الردة ومنع تعدد الزوجات وغيره من القوانين والمواد التي لا تحصى ولا تعد لا يخالف الإسلام حسب رأيه؟!
ويتضح منهج الشيخ أكثر في فهمه للدين عندما أضاف قائلا أن "سلطة الشعب هي التي تحدد ما هو الدين وماذا يطبق منه في هذه اللحظة التاريخية. ولا توجد جهة تمتلك هذه السلطة غير الشعب"، وعندما تحدث عن كيفية فهم الإسلام قال: "هذا مرتبط بالبيئة والناس وتطورهم والمشاكل التي نعيشها ونوعيتها"، وقال أيضا "فنحن مسلمون حقا نؤمن بالإسلام كاملا، ونؤمن أن الإسلام قادر على استيعاب كل ما هو نافع للحياة، فكل ما هو نافع هو شرعي حتى وإن ظهر عكس ذلك وهذه نظرية قديمة.الشريعة عدل كلها ومصلحة كلها وكل ما لم يكن عدلا ومصلحة ليس من الشريعة حتى وإن ظهر في لباسها".
وبناء على ما تقدم فإن فضيلة الشيخ يرى أن السيادة بيد الشعب، فهو الذي يحدد ماهية الدين، وماذا يطبق منه في هذه المرحلة، ويمارس الشعب هذه السلطة من خلال هيئات منتخبة وعلى رأسها المجلس التشريعي، الذي يشرع القوانين والدستور نيابة عن الشعب. يقرر الشيخ هذا المنهج في مخالفة صريحة لقول الله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ﴾. وقوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ﴾، فالإسلام هو الدين الذي أنزله الله على سيدنا محمد r ليخرج الناس من دائرة الهوى، في حين يرى الشيخ أن الدين يحدده الشعب!!
وبما أن البيئة والمجتمعات تتطور وتتغير وتتبدل حسب رأي الشيخ، لذلك كان لا بد لفهم الدين، أي الشريعة، أن تكون مرنة، ولا بد أن تتوافق مع الواقع لتعطيه من الأحكام ما يناسبه. وبناء عليه فإن منهج الشيخ في فهم الإسلام هو أن الأفراد والجماعات في تطور وتغير دائم ولذلك يجب أن تكون الشريعة مرنة، والقاعدة التي تتبع في ذلك هي المنفعة والمصلحة كما يراها العقل، فما يراه العقل محققا للمنفعة والمصلحة ودارئاً للمضرة والمفسدة فهو مشروع وإن خالف نصا شرعيا، لأنه حسب رأيه "الشريعة عدل كلها ومصلحة كلها وكل ما لم يكن عدلا ومصلحة ليس من الشريعة حتى وإن ظهر في لباسها". إن هذه المنهجية لعمري تؤدي إلى تعطيل الشرع وهدم الدين، بل هي تشريع دين جديد يكون العقل فيه هو الحاكم لا الشرع. فالمنفعة والمصلحة هي الأصل والتشريع يبنى عليها، أي يستدل على الدين بالمنفعة والمصلحة حسب ما يراها العقل لا الشرع. فالواقع يدرس دراسة عقلية، وتدرس جوانب المصلحة وجوانب المفسدة فيه، ثم يكون حكم الشرع في ذلك الواقع بحسب المصلحة كما يراها العقل، فإذا غلب العقل جانب المصلحة كان ذلك الشيء أو الأمر مشروعا، وإذا غلب جانب المفسدة كان العكس، وبذلك تستبعد الشريعة بحجة المصلحة وتغير الزمان والمكان.
ولأن هذا المنهج قد درج عليه فضيلة الشيخ وبعض المعاصرين الذين يعطلون النصوص بدعوى جلب المصالح ودرء المفاسد، كان لا بد من الإشارة ولو باقتضاب للضوابط التي وضعها علماء الأصول المعتبرون الذين يعتبرون المصالح والمفاسد علة شرعية يمكن اعتمادها في استنباط الأحكام. فقد بين العلماء:
- أن ما طلبه الشرع فهو مصلحة وما نهى عنه فهو مفسدة، أي أن دليل المصالح والمفاسد هو الشرع ولا دخل للعقل في ذلك مطلقا.
- أن قواعد المصالح والمفاسد التي استنبطت من الأدلة الشرعية إنما تستخدم وتطبق على المسائل التي ليس فيها نص، أما ما كان فيه نص كحكم الربا، فلا دخل لهذه القواعد فيها مطلقا، لا تأكيدا ولا نفيا.
يقول الشاطبي المالكي في الموافقات، وهو من رواد المقاصد "كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين وكان ملائما لتصرفات الشرع ومأخوذا معناه من أدلته فهو صحيح يبنى عليه ويرجع إليه إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعا به" وقال أيضا "لا يقال يلزم من هذا اعتبار كل مصلحة، موافقة لمقصد الشارع أو مخالفة. وهو باطل. لأنا نقول لا بد من اعتبار الموافقة لقصد الشارع لأن المصالح إنما اعتبرت مصالح من حيث وضعها الشارع كذلك..."
ويقول الشاطبي في الجزء الثاني صفحة 25: "أن الشريعة إنما جاءت لتخرج العباد من دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادا لله، وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس، وطلب منافعها العاجلة كيف كانت".
ويقول أيضا في الموافقات صفحة 114 من الجزء الثاني "المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف من داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد الله اضطرارا والدليل على ذلك... قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).ويقول في نفس الجزء صفحة 117: "أما أن مصالح التكليف عائدة على المكلف في العاجل والآجل فصحيح، ولا يلزم من ذلك أن يكون نيله لها خارجا عن حدود الشرع، ولا أن يكون متناولا لها بنفسه دون أن يناولها إياه الشرع وهو ظاهر. وبه يتبين أن لا تعارض بين هذا الكلام وبين ما تقدم لأن ما تقدم نظر في ثبوت الحظ والغرض من حيث أثبته الشارع لا من حيث اقتضاه الهوى والشهوة".
ويقول العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام في مصالح الأنام": "فكل مأمور به ففيه مصلحة الدارين أو إحداهما، وكل منهي عنه ففيه مفسدة فيهما أو إحداهما" وقال أيضا "أما مصالح الدارين وأسبابها ومفاسدها فلا تعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح".
يتبع إن شاء الله...
بقلم: د. الأسعد بن حسين - تونس
رأيك في الموضوع