الحمد لله على أيامه المجيدة، ونعمائه المديدة، والصلاة والسلام على من صنع لأمتنا انتصاراتها الفريدة، وأرغم بشريعته رؤوس الطواغيت العنيدة، وعلى آله وأصحابه وحملة دعوته.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾. هي أيام الله التي ذكراها تحث كل صبار شكور أن يهبَّ ليخرج أمته من الظلمات إلى النور، أيام الله التي سُطرت بها الأمجاد وصنعت بها الانتصارات، وتحققت بها نعم الله وأفضاله على رسله وأتباعهم، هي ما يأمر الله بألا تغيب ذكراها عن بال كل مؤمن. لذلك ما أحرانا اليوم نحن الدعاة أن نذكر كل يائس ساهم إعلام الطواغيت ومشايخ السوء في هزيمته نفسيا، أن نذكره بأمجاد الله وما أكثرها على مدار الأيام والشهور.
رجب الخير وما أكثر الخير في رجب! الشهر الذي شمله دعاء الحبيب ﷺ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ» رواه أحمد. الشهر الذي عظمته العرب فاشتقت اسمه من الهيبة والتعظيم: (رَجِبْتُ الشيءَ أي هِبْتُه، والتَّرْجِيبُ أي التعظيمُ). تمر بنا ذكراه وكثير من المسلمين لا يتنبهون إلى أمجادهم التي صنعتها أيديهم فيه يوم كان لهم خلافة، ولا إلى نكساتهم التي منوا بها فيه يوم هدمت دولة الخلافة. ففيه خط المسلمون سطوراً مضيئة في صفحات المجد والخلود لدينهم ولأمتهم العظيمة بجهادهم وبطولاتهم الرائعة.
فمن أيام رجب المجيدة بدءا من السيرة العطرة:
* في شهر رجب من السنة الخامسة للبعثة النبوية كانت الهجرة الأولى من مكة المكرمة إلى الحبشة، الهجرة التي كسرت قيد الأسر والتعذيب والملاحقة، وفتحت للمسلمين مجالا آمنا للدعوة رغم أنف قريش وأوليائها.
* وفي شهر رجب 2هـ كانت سرية عبد الله بن جحش المعروفة بسرية نخلة، حيث نفذ ثمانية أسود فقط من الصحابة، واحدة من أجرأ وأخطر المهمات على أعتاب مكة أرعبت قريشا وفيها تمكن البطل واقد بن عبد الله التميمي من قتل أول مشرك في سبيل الله وأسر آخرين، وقد نزل في هذه السرية قرآن خالد.
* وفي شهر رجب 8هـ كانت سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى أرض جهينة، وتسمى غزوة سِيف البحر أي ساحل البحر.
* وفي شهر رجب 9هـ وقعت غزوة تبوك، غزوة العسرة، وهي آخر غزوات الرسول ﷺ وأكبر جيش حركه على الإطلاق. فعندما قرر الرومان إنهاء القوة الإسلامية التي أخذت تهدد كيانهم؛ خرجت جيوش الروم بقوى رومانية وعربية تقدر بأربعين ألف مقاتل قابلها ثلاثون ألفاً من المسلمين. كانت النتيجة أن انتصر المسلمون بالرعب، ففر جيش الروم كالفئران بعد سماعهم بقدوم جيش المسلمين، وفيها نزل جزء كبير من سورة براءة. وقد رسمت تبوك تغيرات عسكرية في المنطقة، جعلت حلفاء الروم يتخلون عنها ويحالفون العرب كقوة أولى في المنطقة. وترتب على ذلك خضوع النصرانية التي كانت تمت بصلة الولاء لدولة الروم مثل إمارة دومة الجندل، وإمارة إيلة (مدينة العقبة حالياً).
* في 4 من شهر رجب سنة 12هـ فتح المسلمون مدينة الأنبار في العراق بقيادة خالد بن الوليد بعد أن فتح الحيرة في جبهة فارس.
* في رجب سنة 13هـ فتح خالد بن الوليد رضي الله عنه مدينة دمشق.
* في 5 من رجب سنة 15هـ كانت موقعة اليرموك بقيادة خالد بن الوليد وجموع الروم، وهي من أهم المعارك لأنها كانت بداية أول موجة انتصارات للمسلمين خارج جزيرة العرب، وآذنت بتقدم الإسلام السريع في منطقة بلاد الشام.
* في 5 من شهر رجب عام 92هـ عبر القائد طارق بن زياد البحر الأبيض المتوسط إلى الأندلس لفتحها.
* وفي رجب من العام 216هـ فتح القائد المسلم القاضي أسد بن الفرات جزيرة صقلية.
* وفي 12 رجب عام 479هـ انتصر الأمير يوسف بن تاشفين على الفرنجة في معركة الزلاقة.
* وفي 27 رجب من عام 583هـ أي في ليلة الإسراء والمعراج دخلت الجيوش الإسلامية بقيادة القائد الناصر صلاح الدين الأيوبي مدينة القدس وحررها بعد حوالي 88 عاماً من احتلال الصليبيين، وطهر المسجد الأقصى من الأسر في معركة حطين العظيمة.
هذه أمجاد رجب وزهرة أيامه، أما مآسيه فإليكم أسود أيامها:
* في 28 رجب عام 1342هـ، تم إلغاء الخلافة العثمانية على يد اللعين مصطفى كمال، وبهذه الخطوة نجحت المؤامرات والمكائد التي استمرت عشرات السنين لتدمير الرابط الروحي والحصن الواقي للأمة الإسلامية، وكرت علينا البلايا.
* وشهد شهر رجب من عام 1367هـ أفظع مجازر يهود في فلسطين مثل مجزرة دير ياسين، ومجزرة أبو شوشة.
* وبتاريخ 7 رجب عام 1367هـ أعلن رسمياً قيام كيان يهود الغاصب على أرض فلسطين المباركة، وسارعت دول الضرار للاعتراف بها.
ولا زال شهر رجب يتكرر مروره ووجهه شاحب دامع العينين، لم تعد أيامه تسمع دوي التكبيرات ولا صخب التهليلات، ولا شوارعه تشهد الزينة وأهازيج الانتصارات. فلا خليفة يجيش الجيوش، ولا قادة ترد العدوان، ولا راع يصون الرعية!
أيها المسلمون، يا خير أمة كتب الله لها العزة وحرم عليها الهوان: لأن الخلافة حصنكم الحصين قد زال بعد أن بتم بغير حصن، ولأن الخلفاء وحدهم هم من حرك جيوشكم المباركة وصنعوا انتصاراتكم، بات الانتصار منسيا وباتت جيوشكم مشلولة بعد أن حل السفهاء محل الخلفاء. رجب الخير أنتم من صنعتم أمجاده في السابق وأنتم من تعيدونها اليوم بإذن الله ما اعتصمتم بالله، واتخذتم إقامة الخلافة قضيتكم المصيرية، وأعطيتم قيادتكم للدعاة المخلصين من أبنائكم الواعين البررة. فهل ستنجب أمتنا الخيّرة المعطاءة أمثال عمر وخالد وصلاح الدين لتحرير أرض فلسطين من جديد، وإقامة الخلافة الراشدة حتى لا نسمع فيها بمثل هذه النكبات؟ أعيدوا لرجب أمجاده حتى نعيد للأمة ريادتها وانتصاراتها في شهر رجب الخير وغيره من الشهور، وحتى نمحو من ذاكرة الأمة تلك الليالي السوداء التي توالت عليها.
اللهم نسألك همة كهمة الصحابة الأوائل، وبيعة كبيعتهم، ونصرا كنصرهم، ورجب عز وانتصار، لا رجب ذل وانكسار.
﴿وَلا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾.
بقلم: الأستاذ أحمد الصوفي
رأيك في الموضوع