طبقا لما نشرته جريدة الحياة اللبنانية بتاريخ 29/5/2019م، فقد أقر 1200 (شخصية إسلامية) من 139 دولة يمثلون 27 مكوناً إسلامياً من مختلف المذاهب والطوائف، وفي طليعتهم كبار مفتيها، "وثيقة مكة المكرمة"؛ دستوراً تاريخياً لإرساء قيم التعايش بين أتباع الأديان والثقافات والأعراق والمذاهب في البلاد الإسلامية من جهة، وتحقيق السلم والوئام بين مكونات المجتمع الإنساني كافة من جهة ثانية، مستلهمين الأثر البالغ لـ"وثيقة المدينة المنورة" التي عقدها النبي e قبل 14 قرناً لحفظ تنوع الدولة الإسلامية وتعايشها باختلاف مكوناتها.
هكذا وبكل جرأة على دين الله، وبكل عبث بثوابت الدين، وبكل تحد لمشاعر المسلمين وتراثهم السياسي والتشريعي، يقر من أُطلق عليهم (شخصيات إسلامية) وثيقة ضرر وضرار زاعمين أنهم استلهموا بنودهامن وثيقة المدينة المنورة التي كتبها النبي e بعد إقامة الدولة الإسلامية الأولى فيها.
ولبيان مناقضة وثيقة مكة - وثيقة الضرر والضرار - لوثيقة المدينة المنورة، لا بد من التأكيد أولا أن وثيقة المدينة قد كانت إظهارا للسيادة الإسلامية بوضوح لا يحتمل التأويل على مكونات المجتمع المدني كلها رغم تنوعها العقائدي والتاريخي، خلافا لما أظهرته وثيقة الضرر والضرار من نفاق للمجتمع الدولي على حساب الشريعة الإسلامية وثوابتها السيادية، وعقائدها التي لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تنسجم مع عقائد الشرك والخرافة، وتتضارب مع الحضارة الإسلامية التي ملأت طباق الأرض، وهي تنشر التوحيد وتحارب التثليث والإلحاد. ثم لا بد من عرض أبرز ما جاء في وثيقة مكة وبيان ما جاء فيها من مخالفات للإسلام، ومحاولات لتحريف أحكامه.
ولن يتسع مقام كهذا للخوض في تفاصيل ما جاء في وثيقة الضرر والضرار، ولكن يكفي العلم بأنها وثيقة قد صدرت من شخصيات ليس لها صفة التمثيل في المسلمين، وتحت مظلة دويلات الضرار السايكسبيكوية التي أقامها الكافر المستعمر على أنقاض دولة الخلافة العثمانية، وهي دويلات لا تمثل الإسلام والمسلمين بأي شكل من الأشكال، وثالثة الأثافي أن الوثيقة قد جاءت بتوجيهات من الدول الاستعمارية الكبرى (أمريكا ودول أوروبا وغيرها) في مرحلة استضعاف المسلمين، واستقواء الكافرين عليهم، بل لهم كل سبيل على المسلمين. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾. [سورة النساء: 141].
وأكدت وثيقة الضرر والضرار أن مرجعية الأمة الإسلامية هم علماؤها الذين يوالون حكامها الموالين أصلا لدول الاستكبار العالمي، ما يعني قمع صوت العلماء الربانيين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وسن التشريعات والقوانين التي تضمن لهم ذلك، وهذا يعني بقاء الحال السيئ على ما هو عليه، والإصرار بشدة على منع أي عمل تغييري يُنهض هذه الأمة من كبوتها التي طالت واستطالت. ناهيك عن اعتبار مساهمة الإسلام والمسلمين في الحضارة الإنسانية جزءاً من مساهمات الآخرين، وهنا تُشتمّ رائحة الفكر الماسوني الخبيث، والذي يساوي بين الأديان والعقائد، كي يبدو الإسلام كمّاً مهملا أمام الكفر الرأسمالي والإلحاد الشيوعي.
وعندما تحدثت وثيقة الضرر والضرار عن "الحوار الحضاري بصفته أفضل السبل إلى التفاهم السوي مع الآخر، والتعرف على المشتركات معه، وتجاوز معوقات التعايش، والتغلب على المشكلات ذات الصلة، إضافة إلى تجاوز الأحكام المسبقة المحمّلة بعداوات التاريخ التي صعدت من مجازفات الكراهية ونظرية المؤامرة..."، وأوصت بـ"عدم التدخل في شؤون الدول مهما تكن ذرائعه المحمودة؛ فهو اختراق مرفوض، ولا سيما أساليب الهيمنة السياسية بمطامعها الاقتصادية وغيرها، أو تسويق الأفكار الطائفية، أو محاولة فرض الفتاوى على ظرفيتها المكانية..."، فإنها بذلك تقطع الطريق تماما على عمل الدولة الإسلامية الأصلي وهو الجهاد في سبيل الله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتعمل جاهدة كي تمحو قرونا مجيدة من تاريخ المسلمين، وتطمس معالمها المشرقة!!
ولما شدد المؤتمرون في وثيقة الضرر والضرار على "تحصين المجتمعات المسلمة، والأخذ بها نحو مفاهيم الوسطية والاعتدال..."، فإنهم بهذا قد نصبوا أنفسهم حكاما على القرآن والسنة وما أرشدا إليه من إجماع صحابة وقياس يستند إلى الكتاب والسنة والإجماع، وضربوا عرض الحائط بأقوال علماء الأمة الأفذاذ عبر قرون طويلة طُبق فيها الإسلام تطبيقا صحيحا معتدلا وسطا بكل ما تعنيه هذه الكلمات من معاني الرقي وتعبيد الناس لرب العالمين، واستبدلوا بها أقوالا خرقاء لعلماء متهافتين بعيدين كل البعد عن التأصيل الشرعي لمسائل الدين.
وفي ترضية ساذجة وفارغة من أي محتوى جدي، طالبت الوثيقة بالاعتناء بالشباب المسلم، دون طرح أي برنامج تفصيلي متكامل لاستثمار هذه الشريحة العريضة في الأمة الإسلامية، وكذلك طالب المؤتمرون بـ"تجاوز المقررات والمبادرات والبرامج كافةً طَرْحَها النظـري، وبخاصة ما يتعلق بإرساء السلم والأمن الدوليين، وإدانة أساليب الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، والتهجير القسري، والاتجار بالبشر، والإجهاض غير المشروع". وهذا كلام إنشائي مبتذل، يقصد منه إشعار المسلمين بوجود ضوء في آخر النفق المظلم، رغم أن هذه الممارسات الإجرامية والإرهابية هي عين ما تقوم به دول الكفر والاستكبار العالمي وأدواتها من زمرة الحكام الفاسدين في بلاد المسلمين منذ نشأتهم.
وختاما أقول: إن وثيقة الضرر والضرار في مكة قد جاءت والمسلمون في الحضيض لا منعة لهم ولا دولة، لكن وثيقة النبي e في المدينة قد كانت والمسلمون في أوج قمتهم، بعد أن تحققت لهم المنعة، وأقاموا فيها الدولة.
فاللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، ونسألك ربنا أن تجعل الدائرة تدور عليهم، وترزقنا خلافة حقيقية ثانية راشدة على منهاج النبوة يعز فيها أولياؤك ويذل فيها أعداؤك، فأنت ولي ذلك والقادر عليه.
بقلم: الأستاذ عصام عميرة – بيت المقدس
رأيك في الموضوع