أصدرت وزارة التجارة في أمريكا أمرا بإضافة شركة الاتصالات هواوي الصينية العملاقة إلى قائمة التصدير السوداء والتي تحظر عليها شراء أي خدمات أو بضائع من شركات أمريكية، وقد باشرت شركة جوجل وغيرها من الشركات الكبرى في أمريكا توقيف مبيعاتها وخدماتها لشركة هواوي.
لطالما تشدق أرباب النظام الرأسمالي بحرية التجارة العالمية، وعولمة المال والسوق، وحرية انتقال الأموال والبضائع. ولكن الحقيقة التي طالما جادل بها أرباب النظام أو المضبوعون بالغرب وحاولوا إنكارها، بدت جلية واضحة بالتعامل مع شركة هواوي. وذلك أن العولمة هي نظام أرادته أمريكا ومعها دول أوروبا الغربية لتحقيق أكبر قدر من المكاسب المالية من خلال تمكين شركاتها من دخول الأسواق العالمية لبيع منتجاتها وخدماتها دون أي عوائق ضريبية أو جمركية، ومن ثم السماح للأموال للانتقال من مختلف بقاع العالم لتنتهي في البنوك والمصارف التابعة للشركات العملاقة. ولم يكن بحسبان أمريكا وأرباب الرأسمالية أن ينتج العالم شركات عملاقة تستخدم نظام العولمة ذاته لبيع بضائعها وخدماتها في أمريكا وأوروبا وتحرك الأموال بالاتجاه المعاكس كما فعلت هواوي وشركة ZTE. وهنا وبدون مقدمات تعلن أمريكا أن شركة هواوي على قائمة سوداء من صنع أمريكا، ولا تستطيع ممارسة التجارة بحرية، ولا بناء على قوانين السوق والعولمة.
فأمريكا وأرباب النظام الرأسمالي اعتادوا على تصميم وصنع اللعبة السياسية والاقتصادية ووضع قوانينها، وإجراءاتها الكاملة بحيث تكون شركاتهم العملاقة هي الرابح الأول والأخير، وبحيث يستمر تدفق البضائع والسلع والخدمات من الشمال الغني إلى الجنوب الفقير، ويستمر تدفق المال باتجاه ملاك اللعبة وصانعيها. وفي أي لحظة يختل ميزان اللعبة هذه تعمد أمريكا ومعها شركاؤها الرأسماليون إلى تغيير قواعد اللعبة، أو إخراج أي جهة من اللعبة إذا بدا أنها قد تربح وتصبح لاعبا حقيقيا. فشركة هواوي بدأت تسيطر على جزء كبير من السوق الذي تراه أمريكا حكرا لها. فأدارت لها ظهر المجن، وكسرت قواعد اللعبة كلها، وضربت عرض الحائط بقوانين الاقتصاد الحر والعولمة وجهاز الثمن وغيرها.
والحاصل أن أمريكا تحديدا تمسك وبشكل حازم بزمام اللعبة الاقتصادية، فلا تسمح لأي جهة كانت أن تستحوذ على قسم من الأسواق العالمية إذا كان ذلك يؤثر على شركاتها ومصادر أموالها وربحها. فكيف إذا كانت هذه الجهة تعتبر من بلد مثل الصين والتي تعتبر المنافس الاقتصادي الأكبر لأمريكا؟!
من هنا لم يكن من الغريب أن نرى كبرى الشركات العملاقة مملوكة لرأسمال أمريكي صرف وأحيانا بالتشارك مع دول أوروبية من مثل بريطانيا وألمانيا والسويد. وليس مستغربا كذلك أن نرى الفرق الهائل في ميزان الدخل القومي بين أمريكا وغيرها من دول العالم حتى أوروبا. وحين كانت الصين لفترة محدودة تعمل شركاتها برؤوس أموال أمريكية، لم تكن هناك أزمات اقتصادية وحروب تجارية بين الصين وأمريكا لأن أمريكا كانت تعتبر الصين محل استثمار وأن خراجها عائد لأمريكا. ولكن حين تجاوزت الصين مرحلة البناء الصناعي وأصبحت قادرة على بناء مؤسسات مالية وصناعية خاصة بها، أصبحت تشكل تحديا للعبة السياسية الاقتصادية والتي نسجت قواعدها بإحكام مؤسسات المال الأمريكية.
فلما كانت شركة هواوي تعمل لصالح شركات الاتصالات الأمريكية مثل موتورولا ولوسنت وغيرها، كانت تنظر لها الشركات الأمريكية كمن ينظر لشغالات القصر، تأكل وتشرب من أطيب الطعام والشراب، ولكنها لا تملك شيئا. وكان ذلك حالها مطلع هذا القرن؛ إلا أنها حين بدأت تستحوذ على سوق الاتصالات ابتداء من أجهزة التحكم والتوزيع إلى أجهزة الخلويات، فقد أصبحت بنظر أمريكا شركة لا تستحق أن تبقى ضمن اللعبة الرأسمالية إذ إنها ظنت أن العولمة والسوق الحر هي حقيقة يمكن استخدامها. ولم تعلم أنها خرافة مشينة وأكذوبة تستعمل لفرض الهيمنة الاستعمارية، فلا بد أن تخرج من اللعبة بنفسها أو يتم إخراجها.
من هنا فلا بد أن يكون معلوما أن أساس اللعبة وحقيقتها هي لعبة سياسية وقوامها صراع مبدئي مرير. فمن يريد أن يبيع ويشتري في السوق العالمي عليه أن يكون صاحب سيادة في العالم وعلى مستوى العالم. فهذا السوق ليس مفتوحا كما يشاع، والتجارة فيه ليست حرة، والاتجار بالبضائع والخدمات ليس كما يُهيأ للبعض، بأنك إذا ملكت البضاعة والتي يرغبها الزبائن فتستطيع أن تبيع وتربح. ليس الأمر هكذا أبدا، وأشبه ما يكون أمر السوق العالمي بكازينو القمار في ملاهي لاس فيغاس وغيرها. فاللاعب يلعب حسب قوانين الكازينو، ويظن أنه يربح ويخسر حسب قوانين اللعبة المعلنة، ولكن الحقيقة هي أن الكازينو وأصحابه هم من يربحون دائما، والخاسر هو من يظن أنه يستطيع أن يكسب رغما عن أرباب الكازينو.
لذلك كان على الصين أن تدرك أن صراعها الحقيقي مع أمريكا ليس صراعا ماليا اقتصاديا في أصله، بل هو صراع على من يملك السيادة على السوق العالمي. وهذا يعني أنه صراع سياسي مبدئي. والصين لضعف رؤيتها السياسية وعدم التزامها قواعد مبدئية أخطأت النظرة للواقع، وظنت أنها تستطيع أن تنافس الأسد في عرينه وملعبه، دون أن تدرك أن قوانين اللعبة تتغير وتتبدل حسب مصلحة أسد الغاب.
ولا مناص أخيرا من التأكيد على أن الطرف الوحيد الذي يمكن أن يغير هذا الواقع الأليم هو دولة صاحبة مبدأ، تكون قادرة على خلق أصول جديدة في الواقع المالي والاقتصادي تشل حركة أرباب المال والاقتصاد الأمريكي وتقضي على خرافة السوق الحر والعولمة. ولا يملك مثل هذا الأمر إلا دولة الخلافة الراشدة التي يفرض عليها المبدأ عدم استعمال قوانين لعبة قذرة وظالمة. فدولة الخلافة حين ترفض التعامل بالربا والأسهم والسندات فإنها تحرم أرباب المال في أمريكا فرصة الضغط أو السيطرة على أموال الدولة. وحين تدير ظهرها للدولار واليورو كأساس للنقد وتعتمد الذهب والفضة قولا واحدا، فإنها تُفقد أمريكا أداة السيطرة الرئيسة في النظام المالي. وحين تتبنى الدولة قوانينها الخاصة بالتعامل مع دار الحرب والاتجار معها، فإنها تُفقد العولمة الخرافية بعدا جغرافيا ضخما.
وهكذا فإنه لا منقذ للعالم من شرور الرأسمالية العالمية وشرور أربابها الجشعين إلا دولة يكون نظامها أساسه العدل ومصدره وحي من الله العادل العالم بأحوال العباد.
قال سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾
بقلم: د. محمد جيلاني
رأيك في الموضوع