أولا- السيادة على شمال أفريقيا... هي الآن لمن؟
بالعودة إلى ظروف وملابساتِ الغزو الفرنسي للجزائر في 1830م وكيف تمكن الفرنسيون من سلخها عن دولة الخلافة العثمانية، وبمراجعة الموقف الدولي في القرن التاسع عشر الميلادي والأوضاع السياسية التي كانت سائدةً حينئذ، يتبين أن فرنسا الاستعمارية دخلت الجزائر برضا بل بإذن من البريطانيين، الذين كانت دولتهم قد بلغت أوج قوتها وعظمتها في ذلك الوقت. لذا فإن السيادة على شمال أفريقيا هي منذ عقود للإنجليز، ضمن توافق مع القوى الأوروبية ومع فرنسا تحديداً، بما يضمن مصالحها خصوصاً الثقافية والاقتصادية. إلا أنه بحكم تغلغل النفوذ الفرنسي مع الزمن في كافة الأوساط، فإن نفوذ فرنسا في المنطقة، لا يتبخر بمجرد وصول عملاء بريطانيا وإمساكهم بمقاليد السلطة في أي بلد خرجت منه فرنسا عسكرياً، أو أن الصراع بعد ذلك التراضي أو التوافق مع بريطانيا قد انتهى. ولما دخلت أمريكا على خط المواجهة السياسية مع الأوروبيين أي مع بريطانيا بالأساس لتحل محلها في مستعمراتها، باتت كل بلاد المسلمين بؤراً لهذا الصراع بأدوات محلية، ومنه ما نشهده الآن في اليمن مثلاً، أو في ليبيا.
ومن المعلوم أن الجنرال ديغول خلال الحرب العالمية الثانية بصفته رائد المقاومة الفرنسية ضد الألمان حينها، كان قد طلب أثناء وجوده في لندن عقب الاحتلال الألماني لبلاده مساعدةَ بريطانيا تشرشل له في تحرير فرنسا من قوات هتلر، وذلك في مقابل مزيد من التنازل المؤلم عن النفوذ في شمال أفريقيا، علماً أن ديغول كان يعلم مدى أهمية ما كانت تعتبره فرنسا امتداداً لها أو بالأحرى جزءاً منها على الضفة الجنوبية للمتوسط، وفي القارة الأفريقية عامةً.
وبعد هيمنة جماعة الإنجليز على الحكم في الجزائر بوصول بوتفليقة إلى سدة الرئاسة، تورط المحيطون بالرئيس من المتسلقين والمنتفعين وشركائهم من أرباب الأعمال الموالين لهم، وكذلك من الطرف الآخر المحسوب على فرنسا، تورطوا جميعاً في نهب المال العام بشتى الوسائل والطرق على مدى عقدين. وإذ أدى هذا النزيف إلى وصول البلد اقتصادياً وسياسياً إلى حافة الهاوية، دخلت البلادُ في حالة من الغليان، وباتت مختلف أطياف الشعب خزاناً كبيراً من الوقود متأهباً للاشتعال. يضاف إلى ذلك كله حالة التذمر والغضب العارم وشعور الناس بالإهانة والاستفزاز نتيجة ترشيح بوتفليقة لعهدة خامسة لإبقائه جاثماً على كرسي الحكم لأمد غير منظور. قام على إثر ذلك خصومُ الزمرة النافذة، يقودهم في ذلك علمانيو القبائل المرتبطون بفرنسا ثقافياً وسياسياً ومصلحياً، قاموا بتحريك شرائح واسعة من المجتمع تطالب في البداية برفض العهدة الخامسة، ثم ما لبثت أن تطورت الاحتجاجات إلى المطالبة برحيل النظام وإبعاد كل رموزه، وتحرك الشارع على الوجه الذي نراه اليومَ من مسيرات واحتجاجاتٍ بالملايين مطالبة بالتغيير في أغلب مدن الجزائر منذ شهر شباط/فبراير 2019م.
إن الخطأ في فلسفة أو طريقة التغيير، أو انعدام الرؤية الصحيحة في أي حراكٍ في الأمة الإسلامية، سيزيد حتماً من حجم المصيبة، ولن يكون مآله إلا تثبيت أقدام المستعمِر، بدل أن يكون بارقةَ أمل على طريق التحرر. وبسبب دهاء المستعمر وغفلة أهل البلاد، فإن المشاهد بالحس في حراك الجزائر هذه الأيام هو أن الصراع، بنظر المتابعين عن قرب، بدأ يتحول إلى استفتاء مفاده أيهما أفضل: الوصاية الفرنسية أم الوصاية البريطانية على الجزائر، أم توافق جديد يضمن مصالح الغرب المستعمِر؟ والسبب في ذلك هو التنكر لمبدأ الأمة الذي هو الإسلام وإبعاده عن الحراك الشعبي، إذ ليس هذا السبيل من الوعي السياسي في شيء. وبعبارة أخرى فإن المستجدات في احتجاجات أهل الجزائر وخروجهم إلى الشوارع والساحات منذ أشهر تشير بوضوح إلى أن قيادة أركان الجيش، المنضوية في نفس الزمرة التابعة للإنجليز، بدأت تقترب من فرض تصورها لمرحلة ما بعد إزاحة رأس الفساد المخلوع. كما تنبئ بأن الأمور في حال احتدام الصراع مع الخصوم وعدم وصول قيادة الأركان إلى ما تريد فرضَه على الشعب أو في حالة شعورها بالتهديد، فإن الأمور قد تتجه نحو التعفن أو التصادم بين الحراك والمؤسسة العسكرية، الأمر الذي يبدو حتى الآن مستبعداً. علماً أن قيادة أركان الجيش في الجزائر وهي الضامن للتبعية للأجنبي منذ (الاستقلال)، ظلت تؤكد على السلمية على لسان الفريق أحمد قايد صالح منذ بداية الحراك، وأن الحوار هو السبيل الوحيد للخروج من حالة الانسداد. إلا أن هذا الحوار بحسبها لا بد أن يكونضمن الأطر الدستورية بعيداً عن أي فترات انتقاليةٍ قد تفتح الطريق نحو المجهول، كما جاء في خطابات الفريق! كما دعت في آخر خطوة جميع الفاعلين من الشخصيات والأحزاب السياسية إلى الانخراط في هذا المسار من أجل تجاوز الأزمة. وقد لوحظ مؤخراً تجاوب واضح بل مسارعةٌ في التجاوب مع هذا المسعى من رموز تيار (الإسلام المعتدل) بل حتى من قادة الأحزاب والشخصيات المحسوبة على الجناح الفرنسي وكثير من الشخصيات في الوسط السياسي فضلاً عن أحزاب الموالاة. وهو ما يؤشر إلى بداية انفراج على أساس أرضية توافقية جديدة تُبقي على النظام القائم في البلاد.
ثانيا- الجزائر بلد مهم في صراع الأمة مع الغرب من أجل إقامة كيان المسلمين!!
من الجدير بالذكر أن الكثير في بلاد المسلمين ينظرون ربما نظرةَ إعجاب إلى ما يحدث هذه الأيام في شوارع الجزائر من حيث زخم الاحتجاجات وسلمية المسيرات ونوعية الشعارات، مطالبين بتغيير النظام وإسقاط كل رموز الفساد. ولكن نظراً لأهمية البلد من حيث الموقع ومن حيث الطاقات الكامنة فيه، البشرية وغيرها، ومن حيث ما يكمن فيه من قوة الانتماء لمبدأ الأمة في مواجهة مخططاتِ أعداء الأمس واليوم من قوى الغرب الاستعماري الكافر، وبغض النظر عن طبيعة الصراع بين الزمر المتناحرة المرتبطة بالأجنبي وكيف تحرك الناس ابتداءً نتيجة هذا الصراع وما تحقق من مطالبهم إلى حد الساعة، يبقى المهم هو أين وصل الحراكُ اليوم من حيث نضجه سياسياً وفكرياً بعد ثلاثة أشهر من انطلاقته. وقد جاء في خطابات رئيس أركان الجيش الجزائري الأخيرة خاصة من مدن الجنوب ورقلة وبسكرة، ومن تامنراست في أقصى الجنوب ما يمكن إجماله في النقاط التالية:
1- دعا إلى إخراج ممثلين حقيقيين للحراك، وضرورة أن يفرز الحراكُ الشعبي قياداتٍ ترفع مطالبه وتعبر عن تطلعاته "المشروعة"، ولكن المعقول منها فقط.
2- قال صراحةً: لا لرحيل النظام، معتبراً ذلك غير معقول.
3- رفضَ قائد الأركان فتحَ أي حوار مباشر مع الجيش، وذلك على اعتبار أن الجيش في الجزائر لا يتدخل في السياسة!!
4- أكد على ضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية كمخرج وحيد من الأزمة وعلى عدم الخروج على إطار الدستور! كما أكد أيضاً مراراً وبشكل قاطع رفضَه المرور إلى مرحلة انتقالية تُسيرها شخصياتٌ سياسية مرموقة "حيادية".
5- دعا إلى السرعة في تشكيل وتنصيب الهيئة المستقلة لتنظيم والإشراف على الانتخابات الرئاسية المقبلة، مع التأكيد على أن هذه الانتخابات ستكون المخرج من الانسداد السياسي.
6- انتقد في تصريحاته أيضاً "عدم وجود" شخصيات وطنية ذات وزن وفعاليات وطنية من النخب.
7- حذر من مخاطر الوقوع في الفراغ الدستوري.
8- صعد من اللهجة في الخطاب تجاه الخصوم، وبالأخص رؤوس ما أسماه العصابة أو القوى غير الدستورية ومَن معهم مِن زارعي الفتن في المجتمع الجزائري.
بقلم: الأستاذ صالح عبد الرحيم – الجزائر
رأيك في الموضوع