دينٌ عظيمٌ بدأ بوحي من السماء على رجلٍ في أرض قاحلة محاطٍ بالشرك والمشركين وعبدة الأوثان والأصنام، دينٌ لم يكن يخطر على بالِ أحدٍ من الذين حاربوه أو على بال أوائل الذين آمنوا به أنّه سيبلغ في مداه حتى يصل أصقاع الأرض فيملؤها نوراً وعدلاً، حارب هذا الدينَ مَن حاربه في أوائل مولده، وآمن به ثلّة قليلة جلّهم من ضعفاء القوم.
وبدأ حملُ هذا الدّين حملاً قوياً متيناً على أيدي من آمنوا برسالة المصطفى e، وهم لم يروا بعدُ أثراً ولا استجابة له، آمنوا وعملوا وضحّوا على وعد من الله ونبيّه أنّ لهم الجنة، فوقع اليقين في قلوبهم، وبه تمّ شحذ همّتهم، وبدأت قافلة هذا الدين بكلّ ما حملت معها من آلام وآمال.
مرّت السنين قبل أن تولد للمسلمين دولة أو يكون لهم كيان، ثمّ لما أذن الله بذلك كانت دولة المسلمين في المدينة، فأصبح لهذه الرسالة، لهذه الفكرة، لهذه العقيدة، دولة تحملها وتحميها، دولة تنشرها في ربوع العالمين على أيدي أسودٍ تجذّر الإيمان في قلوبهم وأدركوا أنهم يحملون رسالة عالمية عظيمة خلاصاً للبشرية وهدى ورحمة للعالمين، وكان نبيّ الله يشحذ همم المسلمين كلما ادلهمّت الخطوب، وكلما اشتدّت الأزمات، فكان يقول لمن آمنوا معه: «ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك اللهُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ، إلا أدخَله الله هذا الدين بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليلٍ، عزّاً يُعِزُّ الله به الإسلامَ، وذلّاً يُذِلُّ الله به الكفر».
فما خَبَت في القلوب شعلة الإيمان، ولا انطفأ يوماً نور اليقين، بل كان صغار المسلمين ينشأون على حبّ الله ودين الله حملاً وتطبيقاً ونشراً، فنشأ جيلٌ متميّز، جيلٌ صبغته واحدة ورسالته واحدة، قويّ متين ومتماسك، حتى بات قادراً على مواجهة جيوش فارس والروم...
وكانت البشارات تتوالى وتشدّ من عزيمة هؤلاء الرجال، فقد روى الحاكم في المستدرك وغيره عن عبد الله بن عمرو قال: بينما نحن حول رسول الله e نكتب إذ سئل رسول الله e أي المدينتين تفتح أولا قسطنطينية أو رومية؟ فقال النبي e: لا بل مدينة هرقل أولا - يعني القسطنطينية.
فتوحات ما كانت لتخطر على بال العرب في ذاك الزمان، بل كانت الفرس والروم محلّ رهبة تخضع لها جلّ بلاد الجزيرة العربية عدا عن غيرها من البلاد، فقضية أن يولد دينٌ جديد، ونشء جديد يكون قادراً على مقارعة أقوى قوتين في العالم آنذاك أمرٌ لم يكن يعقله عاقل.
ثمّ شاء الله أن تسقط دولة الخلافة العثمانية، دولة الإسلام، بعد قرون، بعد أن امتدّت وسادت وحكمت كثيراً من بقاع الأرض، ويعلم الجميع قصة تحالف أهل الكفر لإسقاطها مستعينين بالخونة من العرب والعجم.
ومنذ ذلك اليوم والمسلمون يذوقون الهوان بألوانه وأشكاله، فكان التمزيق والتشتيت والقتل والاغتصاب والإذلال وكلّ أنواع البلايا والرزايا التي حطّت فوق رؤوس المسلمين بعد أن أصبحوا كالأيتام على موائد اللئام، يتناوب على إذلالهم أرذل الخلق وأشدهم حقداً على الإسلام والمسلمين، وتوالت نُذُر الشؤم تؤذن من يومها بأحوال عصيبة على المسلمين، وأحاطت بنا قطعان الذئاب تنهش أجسادنا بعد دولتنا ولا معين إلا الله سبحانه في علاه. وازدادت حلكة الظلام بتغوّل الأنظمة الوضعية التي صنعها الكافر ليحرص على بقاء تمزيقنا وإذلالنا.
فأينَ منّا ذاك المجد التليد يا أحفاد الفاتحين؟ أين منّا ذاك العزّ وتلك الكرامة والريادة يا أبناء خير أمّة أخرجت للناس؟ أين من ذاكرتكم تلك الدماء والعرق والدموع التي سالت من الأوائل وهم يحملون همومكم وهموم أهل الأرض قاطبة وجعلتهم يؤسّسون كياناً لا مثيل له على وجه الأرض امتثالاً لأمر الله سبحانه؟
إنّ هذا الدين يا رجال وحرائر المسلمين ظاهرٌ على الدين كلّه بعزّ عزيزٍ أو بذلّ ذليل، فهذه قضية لا جدال فيها، حقيقة شرعية من عند الخالق آكدة، فهل ستكونون أنتم من تتشرفون بأن تكون على أيديكم؟
إن بلاد المسلمين بما فيها من ثروات وطاقات واتّساع تُعتبر الحاضنة الجاهزة لعودة هذا الدين ودولته عودة حملٍ وتطبيق ونشرٍ كما كانت حال سلفنا الرجال الرجال، فهل ستعيدون سيرتهم الأولى وتحصلون على هذا الشرف العظيم؟ لأنها قائمة بكم أو بدونكم، فهل ستسارعون لهذا الخير العظيم؟
أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والمقداد ومحمد الفاتح وعبد الحميد إنّما بنتهم هذه العقيدة وصنعهم هذا الدين فأصبحوا سادة الدنيا وقادتها فما استكانوا ولا استهانوا، ألستم تحملون الدين ذاته وتؤمنون بعقيدتهم نفسها؟ فما لكم تسكتون وترضون أن يكون الأنذال فوق رقابنا ويتحكمون في أعناقنا؟!
وعدُ الله وبشرى نبيّه صلوات الله عليه حاضرة ومُسطّرة، ولا تنتظر إلا الرجال الذين تتوقّد العقيدة في قلوبهم وصدورهم فينبعث نورُها ليملأ أرجاء الأرض ولن تصمد ساعتئذ قوّة على وجه الأرض في وجوههم.
لا تجعلوا الواقع المظلم وتضليل المضللين يحبطكمويخذلكم فتركنوا إلى الواقع الأليم المذلّ الذي يريدونكم أن تعيشوا وتنغمسوا فيه إلى الأبد... بأيديكم تستطيعون قلع الظالمين من جذورهم وقلع كياناتهم بأيديكم المتوضئة الطاهرة فتعيدوا حينئذ سيرة العابدين الفاتحين، فتعود العزة والكرامة والسؤدد وتنشروا الرحمة بين العالمين، وحين تلقون ربّكم تتفاخرون بين يدي نبيّكم وحبيبكم بأنكم الرجال الذين أعادوا لأمته كرامتها وأقاموا في الأرض دينه وحفظوا بين الخلائق إرثه الذي أنزله عليه ربّ العالمين.
دين الله عزيزٌ، ولا يتشرّف أن يكون من أهله إلا من تقرّبوا إلى الله بهذه العزّة.
والله إنّا نراها قريبة ولو رآها المتخاذلون مستحيلة، وطالما يوجد على وجه الأرض حزبٌ كحزب التحرير، ورجالٌ وحرائر آمنوا بربهم واستقرّت بين أضلعهم حقيقة أن الإسلام سيدخل كلّ بيت بعزّ عزيز أو بذل ذليل، فلن يخذلهم الله سبحانه، ولن يخذل كلّ غيور آخر على دينه وشريعة خالقه إن هو أحسن واستقام وعمل لما يرضي الله سبحانه، وليس من عملٍ على وجه الأرض اليوم أفضل ولا أعزّ من استئناف شرع الله وإقامة أحكامه في أرضه فهل أنتم فاعلون؟!
اسمعوا معي ما يقوله الحق سبحانه: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾، ويقول عز وجل: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
اللهم استعملنا ولا تستبدلنا، اللهم وكن لنا نعمَ الناصر والمعين، والحمد لله رب العالمين...
رأيك في الموضوع