إن الباحث المدقق في أمر الإسلام والرأسمالية يجد نفسه أمام حقائق لا تقبل النقض أو التأويل أو الإغفال، وجماع تلكم الحقائق أن الإسلام قد ولد قبل أن تولد الرأسمالية بألفية من السنين كاملة، وعاش معظم سكان العالم القديم والمتوسط وبعض الحديث في ظل حكم الإسلام دون أن يقف سياسي مفكر ليقول إننا بحاجة إلى تعديل نظام الحكم هذا، أو أي شيء من جزئيات أنظمته. ونَعِم الذين عاشوا في ظل حكم الإسلام بالاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي على نحو غير مسبوق، وازدهرت العلوم الإنسانية والطبيعية ووضعت أسسها وأركانها على أيدي المسلمين، وأهم من ذلك كله فإن مستوى الجرائم قد كان دوماً منخفضاً إلى حده الأدنى، ما دفع كثيراً من الناس خارج المجتمع الإسلامي للدخول في دين الله أفواجا، وعندما كان يضطر المسلمون لمغادرة بلد ما فإن أهله الذين عرفوا معنى العيش في ظل حكم الإسلام كانوا يخرجون عن بكرة أبيهم متمسكين بالمسلمين وفي بعض الأحيان كانوا يقاتلون الغزاة من أقوامهم وبني جلدتهم إلى جانب المسلمين.
وقد اقتضت حكمة الله أن تثور الشعوب الأوروبية ضد نظام الكنيسة النصراني، ولكنهم وقعوا في خطأ قاتل ملخصه أنهم رفضوا نظام الكنيسة لقصوره عن تلبية احتياجاتهم الدينية والدنيوية معا، واستبدلوا به نظاماً من عند أنفسهم يلبي احتياجاتهم الدنيوية فقط وفصلوا الدين عن الحياة. وكان الأجدر بهم أن يبحثوا عن نظام يحقق لهم السعادة في الدارين مما له صلة بالسماء يكون أفضل وأشمل من النصرانية. ولما لم يهتدوا إلى الإسلام كدين ونظام حياة أراده الله الذي أنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس، فإنهم ساروا في بناء أنظمة حياتهم خبط عشواء، وصارت عندهم كراهية لشيء اسمه الدين، وأفرغوا سمومهم بعد أن تمكنوا في الإسلام والمسلمين لاعتبارات مصلحية ونفعية، إضافة إلى الكراهية التقليدية للإسلام والمسلمين التي خلفتها الحروب الصليبية التي فاقت المائة حرب.
وهناك شواهد كثيرة من القرآن الكريم تثبت وتعزز هذه الفكرة، ومنها قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾، وقوله: ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾.
وقد تزامن ظهور الرأسمالية وتمكنها في الأرض مع ضعف متسارع لدولة الخلافة، أدى في النهاية إلى هدمها قبل قرن من الزمان، وسقطت بذلك هيبة المسلمين، وفقدوا أرضهم كاملة، وغاض حكم الله من الأرض، وقسمت الغنائم بين المنتصرين في الحرب العالمية الأولى وهما بريطانيا وفرنسا. ودخلت على خط السياسة العالمية أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، وإذا بها وحش مفترس، فاقت وحشيتها حليفاتها الأوروبية، بل ساروا معها في وحشيتها صابين جام غضبهم على المسلمين، وفرضوا عليهم ثقافة المنتصر على المنكسر، وأجبروا العالم بالقوة العسكرية والنفوذ الإعلامي على اتباع طرائق عيشهم، بكل ما فيها من كفر ورذيلة.
ولما أحسّ الغرب الحاقد بواقع الأمة الإسلامية وبواقع قوة الإسلام في الصراع وعدم إمكانية هزيمة الإسلام والمسلمين، صارت الهجمات تترى عليهم من كل حدب وصوب، وركزوا على الأسر والأعراض من خلال اتفاقية سيداو وأشباهها، وفرض مفاهيمها كقوانين نافذة على المستضعفين ومنهم المسلمون، مثل قوانين حماية الأسرة والمرأة والطفل، وباقي قوانين الحريات الشخصية والجندرية وغير ذلك ساعين لإخضاع المسلمين لهم أكثر وأكثر من خلال إنتاج جيل كامل عبر صياغة سامة ينقاد بسهولة إلى المبدأ الرأسمالي وإلى النظام الدولي.
والسؤال الآن للقائمين على اتفاقية سيداو وأشباهها والمدافعين عنهم بعد كل تلك الحقائق التي تتعلق بالإسلام والأمة الإسلامية والدولة وحقائق الغرب وإجرامه وغاياته والرأسمالية وجشاعتها نسأل: هل الإسلام كامل أم ناقص حتى تُكملوا نقصه بهذه الاتفاقيات؟ والجواب: حاشا وكلا لخالق الكون والإنسان والحياة أن يترك عباده هملاً، بل أرسل إليهم نظاماً يضبط فكرهم وفهمهم وشعورهم وإحساسهم وميولهم وذوقهم وغاياتهم وما تنعقد عليه قلوبهم، باعتبارهم كائنات مكلفة ومحاسبة، وضع لهم نظاماً كاملاً جامعاً مانعا، لا يحتاج إلى رأسماليتهم الباطلة، أمّا الإسلام فقد اكتمل واجتمع قبل ولادة الرأسمالية، فالرأسماليون وغيرهم هم الذين يحتاجون إلى الإسلام وليس العكس.
ولذلك كله، فإن الحل الوحيد للبشرية هو إعادة نظام الحكم الإسلامي من خلال إقامة دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، وهي التي تتولى حمل الإسلام إلى العالم أجمع لإخراج الناس من ظلمات الرأسمالية وجورها إلى نور الإسلام وعدله، وقد بشرنا رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه بذلك في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام أحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: «ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ».
﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾
رأيك في الموضوع