قال الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. إن العقيدة الإسلامية ينبثق منها نظام ينظم حياة الإنسان، لا تنفصل الشريعة فيه عن الشعائر التعبدية، كلها نابعة من العقيدة الإسلامية، تدعو لعبادة الله الواحد القهار وإخلاص العبادة والطاعة والخضوع والاستسلام لأمره ونهيه وحسن عبادته، إن الصيام فرض والصلاة فرض والحكم بما أنزل الله فرض، يجب على المسلم الحرص عليها جميعا ليقوم بها حق القيام لطاعة الله وطاعة رسوله e .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، والصيام سبيل لتحقيق التقوى، وتقوى القلوب كفيلة بحسن أداء الصيام، وطاعة لله وحسن عبادته، والتقوى غاية يسعى المسلم لتحقيقها والالتزام بها. روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجه أنه قال: التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أن يطاع الله فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أن يجاهدوا في سبيل الله حق جهاده، ولا تأخذهم في دين الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. فالصيام سبيل لتحقيق التقوى في النفس والقلب والجوارح، تترجمها في واقع الحياة العملية بإقامة دين الله وتطبيق شرعه وتنظيم شؤون حياة المسلمين وسائر الناس بالشريعة الإسلامية.
فالمقصود من الصيام ليس الامتناع عن الطعام والشراب، بل لتحقيق التقوى التي توقظ القلوب وتنشط النفس لإخلاص العمل بطاعة الله وحسن عبادته، التي تظهر في عمل الجوارح والسلوك والمعاملات في واقع الحياة، وتنظيم شؤون حياة الناس بكتاب الله وسنة رسوله e .
رمضان شهر الرحمة والبركة، شهر الخير والتوبة والمغفرة. شهر رمضان المبارك شهر يحاسب المسلم نفسه فيتوب عن ذنب اقترفه أو تقصير عليه جبره قبل فوات الأوان، خسر من دخل عليه رمضان ولم يتعظ بغيره فيتوب ويتقي ربه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله e : «قَدْ جَاءَكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، يُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَيُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ» رواه أحمد.
رمضان شهر يجدد فيه المسلم عهده مع الله وبيعته لرسول الله e ، العهد والبيعة التي أخذها رسول الله e من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم. فإنها ماضية في رقابنا مطالبون بتنفيذها، والحرص على ما تمثله من طاعة الله ورسوله وحفظ دينه والذود عنه وتطبيق شرع الله ونشر الإسلام، والحفاظ على الأمة الإسلامية وإقامة الدين باستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الدولة الإسلامية الرشيدة التي تحكم وتنظم حياة الناس بالشريعة الإسلامية.
فيضع المسلم نفسه مع الأنصار في بيعة العقبة الثانية، وهم يقولون لرسول الله e ، فخذ يا رسول الله ما أحببت لك ولربك، فأجاب رسول الله e بعد أن تلا القرآن ورغب في الإسلام «أبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مَا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ...» ثم قال الأنصار: فما لنا يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ قال رسول الله e : «الْجَنَّةُ»... فقال الأنصار: فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها، ومدوا إلى رسول الله e أيديهم فبايعوه.
فهل وفينا نحن كما وفى المهاجرون والأنصار، أم نحن أهل شعارات فقط؟ هل وفينا وبلاد المسلمين قاطبة لا تحكم بالشريعة الإسلامية، فأين صدق الإيمان وإخلاص العمل لله ولرسوله e ، فكيف يكون صادق الإيمان والعمل والتوجه لله وهو لا يحكم بما أنزل الله ومن يزين له سوء عمله لأجل دنيا يصيبها، كيف لا يهتم المسلمون بوجوب العمل لاستئناف الحياة الإسلامية بإعادة الإسلام حيا فاعلا نشطا في واقع الحياة العملية؟!
أم أصبح هؤلاء الحكام ومن يتبعهم من الخطباء والوعاظ والعلماء كبني إسرائيل لا يوفون بعهد ولا وعد ولا صدق إيمان، ويشترون بآيات الله ثمنا قليلا من حطام الدنيا وزينتها، ويلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق فيصورون لعامة المسلمين أن حياتهم بخير رغم الذل والهوان والتشرد والطغيان، وإقصاء شرع الله عن تنظيم شؤون حياة المسلمين، ورغم الفرقة والتشرذم والنكد الذي يلف حياة المسلمين.
قال تعالى: ﴿وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾.
والعبرة هنا بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب فإن هذه الآيات الكريمة تصف حال يهود وتتوعدهم بسوء الخاتمة وأشد العذاب على أفعالهم وتوبيخهم وذمهم على سوء عملهم، فقد كانوا يدعون إلى الخير ولا يعملونه، ويدعون الناس إلى الهدى ولا يتبعونه، فكل من يعمل عملهم من المسلمين يجري عليه ما جرى عليهم من العذاب والوعد والوعيد، وهؤلاء هم خطباء الفتنة الذي تقرض شفاههم بمقاريض من النار، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالاً تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ: خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ الَّذِينَ يَأْمُرونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ، وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ، وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ».
هؤلاء هم خطباء الفتنة الذين رآهم رسول الله e ليلة الإسراء والمعراج، أناس تقرض شفاههم بمقاريض من النار، خطباء الفتنة الذين يبررون لكل ظالم ظلمه، الذين يجعلون دين الله خدمة لأهواء البشر ولا يجعلون أهواء الناس تنضبط بشرع الله وهؤلاء هم الذين يحاولون أن يجعلوا للناس حجة في أن يتحللوا من منهج الله.
عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَفْزَعُ لَهُ أَهْلُ النَّارِ فَيَجْتَمِعُونَ لَهُ فَيَقُولُونَ لَهُ: يَا فُلَانُ، مَا لَقِيتَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟، قَالَ: بَلَى، كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَا أَنْتَهِي».
اللهم إنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت وأن محمداً عبدك ورسولك e ، اللهم أعنا على صيام رمضان وقيامه وتقبله منا، إنك أنت التواب الكريم، اللهم إنا نستغفرك ونستهديك ونتوب إليك ونؤمن بك ونتوكل عليك، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، اللهم أعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا وأبنائنا وبناتنا وأزواجنا من النار، والحمد لله رب العالمين.
بقلم الأستاذ: إبراهيم سلامة
رأيك في الموضوع