مضى زمن على الفراغ من عمليات الاقتراع التي جرت في عموم محافظات العراق يوم الثاني عشر من شهر أيار من العام الجاري. وقد شاب تلك الانتخابات تزوير كبير، شهد به القاصي والداني، وتميزت عن سابقاتها بعزوف غير مسبوق من الجماهير، لما أصابهم من اليأس من أي بارقة أمل في الصلاح أو الإصلاح على مدى 15 عاما، لفساد الطبقة السياسية المهيمنة على مفاصل الحكم بعد احتلاله سنة 2003م، فتدنت نسب المشاركة لما يقرب من 30 - 35 بالمائة هذه المرة، ما حدا بالبعض للمناداة بإلغائها. لكن إصرار المحتل الأمريكي باعتماد نتائجها رغم ما حصل، هو ما يدفع الأحزاب لمواصلة لقاءاتها لتحقيق الهدف المنشود... وكما هو مشاهد من تدخل المبعوث الدولي بريت ماكغورك في تفاصيل تشكيل الحكومة الجديدة، متزامنا مع مبعوث خامنئي قائد فيلق القدس سليماني.
ومنذ ذلك الحين، وجولات المحادثات بين الكتل مستمرة طوال الثلاثة أشهر الماضية، والناطقون باسمها يخرجون - بين الحين والآخر - بتصريحات توحي ببذل الجهود لتشكيل الكتلة الأكبر التي ستكلف بترشيح رئيس الوزراء القادم. والحق أن الصعوبات في إنجاز أعمالهم ربما تمثلت في ضغوط الأطراف الخارجية، كأمريكا وإيران، والسعودية وقطر وتركيا، لتحقيق مصالح معينة، فضلا عن صراع الفرقاء تحصيلا للمكاسب المحرمة، ما يعقد المشهد، ويحول دون حسم الأمور بدعوة مجلس النواب الجديد للانعقاد في وقت مبكر.
وبعد انتظار ممل أعلن تحالفا (سائرون) بزعامة الصدر، (والنصر) برئاسة العبادي بالإضافة إلى (تيار الحكمة) ويرأسه الحكيم، (وائتلاف الوطنية) برئاسة إياد علاوي الأحد 19/8/2018 عن تشكيل "نواة" الكتلة البرلمانية الكبرى، التي ستشكل الحكومة العراقية المقبلة. وأصدرت القوى الأربع بيانا مشتركا عقب اجتماع في بغداد قالت فيه: "إنه بقرار عراقي وطني نابع من مصلحة بلدنا، واستجابة لمطالب المواطنين اتفقنا على تشكيل نواة لتحالف يسعى إلى تشكيل الكتلة البرلمانية التي تتمكن من تشكيل الحكومة". لكن مجموع المقاعد التي حصلت عليها هذه الكتل بلغ 136 مقعدا، ما لا يؤهلها لتشكيل الحكومة الجديدة منفردة حسب المادة 74 من دستور بريمر، التي اشترطت بلوغ عدد المقاعد 165 مقعدا وهو نصف عدد مقاعد البرلمان البالغ 329 زائدا مقعدا واحدا... أي: أن التحالف الرباعي المذكور بحاجة لإشراك كتلة أخرى لا تقل مقاعدها عن 29 مقعدا لبلوغ النصاب، لذا جاء في بيانهم المشترك أنهم قرروا "الانفتاح على الشركاء الآخرين للمساهمة معا في تشكيل هذه الكتلة". (الحرة والجزيرة).
وإن ما يعقد الموقف، سعي محور آخر لتجميع القوى السياسية خارج التحالف الرباعي تمثل في جهود المالكي والعامري زعيمي (دولة القانون)، (والفتح) في إغراء الكتلتين الباقيتين (المحور الوطني) للقوى السنية بزعامة خميس الخنجر، و(الكتل الكردية)، لتشكيل الكتلة الأكبر، لكن لكل من الأخيرتين شروطها للتحالف مع المجموعة الأولى أو الثانية..! وقد جاء في الأنباء أن رئيس الجمهورية فؤاد معصوم والعامري اجتمعا السبت 25/8/2018، لبحث نتائج تشكيل الكتلة الكبرى، ما ينبئ عن ميل الرئيس معصوم وتأثره بالضغوط الإيرانية لترجيح كفة الموالين لإيران: المالكي والعامري، وقطع الطريق على مقتدى الصدر المتمرد عليها، وحرمانه من تبوؤ مقعد الريادة. ونقلت أنباء عن مصدر مطلع كشف عن انعقاد اجتماع سابق بأربيل بتاريخ 20/8/2018 بين ممثلي (الفتح) (والمحور الوطني) السني بحضور الأكراد. (السومرية نيوز).
وهكذا يتبين للمراقب ما يعترض طريق تشكيل الحكومة الجديدة. فكلما اقترب البعض من هدفه، بدت له مفاجآت لم تكن في حسبانه... وذلك أن المصائب - كما يقال أحيانا - توحد المتضررين - وهم العرب السنة، والأكراد - فالأطراف (السنية) متآمرون حقيقة، أو شهود زور في أحسن أحوالهم..! وقد أصابت جماهيرهم كوارث قل نظيرها، فبعد أن كانوا أسيادا فيما مضى، باتوا لاجئين ومشردين بعد تدمير مدنهم بفعل مؤامرة المحتل وتنظيم الدولة. والطرف الكردي هو الآخر متآمر وعون للكفار على إخوانه العراقيين، قلمت أمريكا أظفارهم وقصت أجنحتهم، لمخالفتهم أوامر الأسياد وخروجهم عن المرسوم... فضاع الكثير من ملكهم الزائف كركوك الغنية بالنفط، وما سمي - زورا - بالمناطق المتنازع عليها..!
وبات الطرفان (السنة) و(الأكراد) بيضة القبان، فكل يتذرع بما أصابه ويفرض الشروط لينضم لأحد الفريقين... فقد كشف أحد رموز تحالف المحور الوطني جمال الكربولي عن شروط المحور للانضمام إلى الكتلة الكبرى، ومنها إخراج مليشيات الحشد الشعبي من المدن المحررة، وإعادة النازحين وتعويضهم، وإعمار مدنهم، والكشف عن مصير المفقودين والمغيبين، مشيرا إلى أن "من يمتلك تلك الإرادة سنشد على يديه قبل الكلام عن الاستحقاق الانتخابي". وكذا الأكراد طالبوا بعودة كركوك وما ذكر آنفا إلى إقليمهم المزعوم، وحل جميع المشاكل مع حكومة بغداد. (العربية).
وبعد استعراضنا لما يجري، لا يبدو أن الأمور ستحسم قريبا، لاحتدام السباق بين الفرقاء، ومحاولة كل منهم دفع خصمه إلى المعارضة، لينفرد هو في تشكيل الحكومة وتوزيع الغنائم، وقد أكد نائب رئيس الجمهورية المالكي في 19/8/2018 - خلال لقائه المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي بريت ماكغورك، أن القوى الوطنية اقتربت كثيرا من تشكيل الكتلة الكبرى. (الجزيرة). ولنا أن نتخيل الموقف كيف سيكون إذا أريد دفع مقتدى الصدر الفائز الأول في تلك الانتخابات إلى المعارضة...!
ولنا أن نتساءل - بعد عقد ونصف من الزمن - هل سيتمكن المحور الفائز من حل أزمات العراق السياسية والاقتصادية وغيرها، بعدما أنهك البلد على جميع الأصعدة، وعمته الفوضى والخراب، وتجذر الفساد فيه بكل صوره، وباتت جيوش تحميه ارتبط وجودها بوجوده؟ الموقف صعب جدا... وذلك أن الذين تعقد الآمال عليهم في إنصاف الشعب المغلوب على أمره، هم أنفسهم من أوصل العراق إلى الهاوية! والأمانة لا تتجزأ، ولا يسوغ عقلا تحول فرد رأسا من قاتل إلى أب رحيم! فلا نرى بصيص أمل في هذه الزمرة الحاكمة على اختلاف مشاربها، وسنعود ولا شك إلى المربع الأول - كما يحلو لسياسيي ما بعد الاحتلال تكراره - ولا مناص من الابتهال وترقب الفرج بنصر عظيم من الله عز وجل يسعد المؤمنين، ويخزي العملاء والمجرمين ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾.
بقلم: الأستاذ عبد الرحمن الواثق – العراق
رأيك في الموضوع