لكل أمة عظيمة خطوط حمراء لا تسمح لأي جهة بتخطيها، لذلك تعتني الأمم العظيمة - خصوصا الأمم المبدئية منها - بقوتها العسكرية إلى جانب اهتمامها بمبدئها، وتتخذ التدابير التي من شأنها حمايتها وانتشارها وهيمنتها على مختلف المبادئ، وتوظف قوتها العسكرية لتحقيق ذلك، إلى جانب توظيفها قوة الدولة السياسية والعسكرية والمبدئية. إلا أنه مع ظهور المبدأ الرأسمالي وطريقة تفكيره البرغماتية، أصبحت المساومة على الخطوط الحمراء للدول والأمم هي الطريقة العملية في التعامل مع التهديدات الداخلية والخارجية فيما يتعلق بتخطيها، ابتداءً بالتعدي على المقدسات وتدنيسها وانتهاء بهتك الأعراض، حتى صار الناس يشاهدون تلك الانتهاكات للمقدسات والأعراض على شاشات التلفاز كأنهم يشاهدون فلما وثائقيا أو فلم إثارة! ولا تحرك تلك المشاهدات في المجتمع الدولي أو الشعبي ساكنا، إلا بالقدر الذي يرفع الضغط عنهم وحين يطفح الكيل فقط! ولست أبالغ إن قلت إن الطريقة الحديثة الغربية البرغماتية في التفكير هي أحط طرق التفكير البشري، حيث قتلت قدرة العقل على الحكم على الواقع واتخاذ المواقف الصحيحة والحازمة في الوقت الذي يتوجب التحرك السريع والحازم.
لقد كانت الأمة الإسلامية هي الأمة الوحيدة في التاريخ التي أعطت العقل البشري مكانته واحترمت مقدسات الأمم وحرماتها، حتى أصبحت مضرب مثل في التاريخ القديم والحديث على حد سواء، والأمثلة في التاريخ الإسلامي على ذلك كثيرة؛
منها طريقة تعامل النبي e مع قريش لنقضها صلح الحديبية، حيث نقضت قريش أحد بنود الصلح بإمدادها حلفائها (بني بكر) بالسلاح، ومساعدتها لهم بالمال والرجال في قتالهم لحلفاء النبي e (بني خزاعة)؛ فقد كان من شروط الصلح بين النبي e وبين قريش أن القبائل المحيطة بمكة لها حرية خيار الانضمام لعقد محمد e وعهده، أو عقد قريش وعهدها، فاختارت خزاعة الدخول في عقد النبي e وعهده، واختارت بنو بكر عقد قريش وعهدهم، وقد حدث أن هجم رجال من بني بكر على خزاعة، فاقتتلوا ليلاً على ماء لخزاعة، وساعدت قريش بني بكر، فقدم عمرو بن سالم الخزاعي (زعيم خزاعة) على النبي e ليعلمه بما أقدمت عليه بنو بكر، بمساعدة قريش لهم في هذا الاعتداء الغادر والناكث لشرط من شروط صلح الحديبية، فجاء إلى المدينة ووقف على رأس رسول الله eبالمسجد النبوي، وأنشده أبياتاً منها:
يا رب إني ناشد محمداً *** حلف أبينا وأبيه الأتلدا
هم بيتونا بالوَتير هُجَّدا *** وقتلونا ركعـاً وسجـدا
وقد كان نقض قريش للعهد بشكل غير مباشر مع رسول الله e، سببا كافيا لرسول الله e، وهو قائد الجيش الحقيقي وقائده السياسي والمبدئي، كان ذلك كافيا لحشد جيش المسلمين، لا لرد اعتبار خزاعة والمطالبة "باعتذار" لها، بل لدك حصون قريش وفتح مكة كلها، وقد كانت مكة في جزيرة العرب وبين القبائل العربية حينها كواشنطن هذه الأيام.
مثال آخر يدل على عدم تهاون المسلمين في الاعتداء على أعراضهم، ما قام به أحد رجال يهود من قبيلة بني قينقاع، حيث كشف عن عورة امرأة مسلمة، فرآه مسلم في السوق فقتله حمية لعرض المسلمة، فتكاثر عليه يهود ممن كانوا في السوق فقتلوه، ولما بلغ ذلك لرسول الله e، أمر من دون تردد بتجييش الجيش، لا لتحصيل دية المسلم الذي قتله اليهودي أو طلب اعتذار للمرأة المُعتدى عليها، بل حاصر بني قينقاع وطردهم من المدينة.
وحكّم e سعد بن معاذ في بني قريظة، لنقضهم العهد مع رسول الله e، فما كان من سعد إلا أن حكم فيهم على نحو ما زُرع فيه من قيم الإسلام وما يوازي ذلك من حرمة دم المسلم وعرضه، واحترام العهود معهم، فحكم عليهم بقتل رجالهم وسبي نسائهم وأطفالهم، ولم يكن ذلك التحكيم من رجل له ثأر قديم مع يهود، بل كان حكمه من صميم أحكام الإسلام العظيم، حيث أقره الوحي على ذلك الحكم، بقول رسول الله e «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ».
إن الأمثلة المشرّفة التي تتعلق بتخطي الخطوط الحمراء في تاريخ المسلمين كثيرة، وقتها كانت تتخذ الأمة وجيوشها مواقف حازمة تقتضي دائما الحرب، من حروب الردة للدفاع عن عقيدة الإسلام، مرورا بالفتوحات، كفتح عمورية بسبب نداء إحدى أسيرات الروم من حرائر المسلمين، وفتح السند بسبب قرصان اعتدى على إحدى سفن المسلمين في عرض البحر... الخ. لكن ذلك كان عندما كان للمسلمين كيان سياسي وكان على رأس ذلك الكيان قائد سياسي عسكري ومبدئي، حيث كان المبدأ الإسلامي هو الموجّه للأمة ودولتها، وأحكام الإسلام هي التي تطبق على الوقائع التي تقتضي اتخاذ مواقف حازمة.
إن غياب الإسلام عن الحكم في الأمة وغياب العقيدة الإسلامية عن العقيدة العسكرية لجيوش المسلمين، وإحلال حكام عملاء نصّبهم الغرب الكافر على رؤوس الأمة ليحكموها بالكفر، وإحلال النعرات الوطنية والقومية عقيدة عسكرية لجيوش المسلمين، هذان السببان هما اللذان جعلا حكام المسلمين وجيوشهم لا يحركون ساكنا للذود عن حرمات المسلمين ومقدساتهم، في فلسطين وكشمير والشام وبورما... ومن قبلها البوسنة والهرسك وغيرها. لو كان في الأمة هذه الأيام قائد كمحمد e أو خليفة كأبي بكر وعمر والمعتصم ومحمد بن القاسم، لما قبلوا في يهود إلا حكم شرع الله فيهم، كما ورد في حديث رسول الله e: «تُقَاتِلُونَ الْيَهُودَ حَتَّى يَخْتَبِيَ أَحَدُهُمْ وَرَاءَ الْحَجَرِ فَيَقُولُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ»، ولما قبلوا من البوذيين بأقل من ذلك، ولما قبلوا من أمريكا إلا ما قبل به رسول الله e من قريش بفتح مكة، ولما قبلوا من الروس إلا بما حكم به سعد في بني قريظة وبفتح موسكو... والقبول بأقل من ذلك يعدّ في الإسلام ذلة ومهانة وبراغماتية غير موجودة فيه. ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
رأيك في الموضوع