"وليس يصح في الأفهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليل"
هل يحتاج أي مراقب منصف إلى كثير عناء ليقرر الحقيقة الساطعة التي تدل على الآثار المدمرة التي عاشتها الأمة الإسلامية منذ هدمت الخلافة العثمانية على يد اليهودي المجرم مصطفى كمال في 1342هـ؟! وأنها ما زالت تئن تحت وطأة كوابيس غياب شمس الخلافة؟! ولقد اختصر وزير خارجية بريطانيا (1919-1924م) اللورد كرزون أثر هذه الجريمة بقوله: "لقد قضينا على تركيا التي لن تقوم لها قائمة بعد اليوم؛ لأننا قضينا على قوتها المتمثلة في أمرين: الإسلام والخلافة". كما أكد صاحبه قائد "الثورة العربية الكبرى (1916م) لورنس في رسائله السرية على أن "نشاط (الشريف حسين) يبدو مفيداً لنا، لأنه يتماشى مع أهدافنا المباشرة: تفتيت الجبهة الإسلامية وهزيمة وتمزيق الإمبراطورية العثمانية… وإذا عولج العرب بطريقة مناسبة سيظلّون في حالة من التشرذم السياسي، نسيج من الإمارات الصغيرة المتحاسدة وغير القابلة للتماسك".
لا يستطيع المرء أن يسرد في مجلدات الفواجع والنكبات التي دفعت الأمة أثمانها غاليا نتيجة غياب شريعة الإسلام عن الحياة، بعد أن فرض الاستعمار الغربي الكافر تجزئة الأمة إلى عشرات الكيانات الهزيلة التي لا تملك قرارها، بل نصب على الأنظمة التي صنعها على عينه حكاما عملاء همهم الأول والأخير محاربة شرع الله تنفيذا لأوامر سيدهم المستعمر.
وحيث إن المجال لا يتسع فأكتفي بسرد عناوين سريعة لأهم آثار غياب الخلافة:
- أولا تعطيل شرع الله: وهذه مصيبة ما بعدها مصيبة، فالمسلم لا يستقيم إسلامه وهو يعيش بعيدًا عن شرع الله، فالخضوع لقوانين الكفر من الشرائع الوضعية معناه، بنظر الإسلام، عدم العبودية الخالصة لله سبحانه، الذي خلق السماوات والأرض، ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾.
- تحكم الدول المستعمرة في بلاد المسلمين، وفقدانهم لإرادتهم في العيش وفق الشريعة.
- خضوع المسلمين للسياسة الاستعمارية القائمة على شعار "فرق تسد"، وقد كان نتيجة هذه التفرقة الويلات العظام، ليس فقط في تمكين يهود من تدنيس أولى القبلتين ومسرى الرسول صلى الله عليه وسلم, بل أيضا قيام حكام المسلمين الخونة بتنفيذ تعليمات سيدهم المستعمر بما في ذلك شن الحروب المدمرة التي أهلكت الحرث والنسل ودمرت البلاد والعباد، ولا تزال مستعرة حتى هذه اللحظة. ومن ذلك خذلانهم للمسلمين الذين تعرضوا لحروب إبادة في فلسطين وأفريقيا الوسطى وبورما والشيشان وكشمير والفلبين، وآخر شواهد خيانتهم ما يحدث الآن في سوريا.
- سير حكام المسلمين في تنفيذ السياسة الاستعمارية الداعية إلى تغريب المجتمعات في بلاد المسلمين، وتحطيم مقومات الشخصية الإسلامية على كل الصعد: الفكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية، للتوصل إلى الإقصاء الكلي للإسلام من واقع حياة المسلمين، وفي أحسن الأحوال حصر الإسلام بممارسة بعض الشعائر التعبدية الفردية، التي لا تؤثر في نهضة المسلمين، أو فكاكهم من ربقة الغرب المستعمر.
- ما كان للحكام الخونة المضي في غيهم لولا تواطؤ بعض من يسمون علماء من المشايخ الذين باعوا دينهم بدنيا غيرهم، فارتضوا لأنفسهم أن يزينوا باطل الحكام، وفي أحسن الأحوال السكوت عن جرائمهم وأول ذلك تعطيلهم لشرع الله، فبينما تجد كثيرين منهم يصول ويجول فيما يضر ولا ينفع من فتاوى ومحاضرات لا تمس الواقع بصلة، لا يستحي من سكوته عن جرائم الحكام الظلمة الخونة الذين يظاهرون الكفار ويعطلون شرع الله ويحاربون العاملين لتطبيق شرعه، هذا دون ذكر فضائح أولئك الذين لم يستحيوا من الافتراء البين بإصدار فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان تحرم ما أحل الله وتحل ما حرم الله، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
فهل يحتاج المرء المنصف إلى كثير عناء ليقارن بين الحال الذي وصلت إليه الأمة الإسلامية بعد هدم دولة الخلافة بما كان عليه حالها في ظل الخلافة: وأول ذلك الاستظلال بظل حكم الشريعة الربانية بحيث تكون دولة الخلافة دولة هداية ورعاية ورحمة وعزة وعدالة. وعندما نرى كيف كان المسلمون يمتلكون مشارِقَ الْأَرْضِ ومغارِبهَا نشعر بالفخر ويملأ الشوق جوانبنا للعودة إلى ما كان عليه المسلمون من حضارة وعمران ورقي فكري وتطور مدني، فقد كان الناس في بقية البلاد يشتاقون للعيش تحت ظل الخلافة، وكانوا ينتظرون جيوش المسلمين لتفتح بلدانهم؛ فقد فتحوا القلوب قبل أن يفتحوا البلاد، ودخلت محبتهم الصدور قبل أن تدخل عساكرهم المدن والقرى، وهذا ما يفسر دخول الناس في دين الله أفواجا، وتشبثهم بدينهم الجديد رغم كل المحن التي حلت بهم بعد احتلال أراضيهم من ملل الكفر، كما حصل في تركستان والبلقان وغيرها.
وقد تحدث المنصفون من الباحثين عن عظمة الحضارة الإسلامية ليس فقط في الأندلس بل في سائر الأمصار، ومن ذلك مقولة غوستاف لوبون المشهورة "ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب"، كماتحدث لويس سيديو عن عناصر الحضارة الإسلامية التي أدخلها الأغالبة إلى إفريقيا فقال: "لم يدخر بنو الأغلب وسعًا في إنعاش ما يستلزمه كل بلد غني خصيب من التجارة والصناعة والزراعة، فسهلوا الصلات بين سكان الصحراء وسكان الساحل بما أوجدوه من المستودعات، وأنشأوا الطرق، وسهروا على سلامة المواصلات، وأحدثوا نظارة عامة للبريد بين حدود المغرب ومصر، ثم أقاموا دورًا للصناعة في أهم المرافئ، فكان لهم أسطول قوي أضحوا به سادة البحر". وما زالت سكة الحديد التي أنشأها الخليفة عبد الحميد الثاني معلمًا شاهدا إلى الساعة على عظمة دولة الخلافة التي قامت بمد سكة الحديد هذه رغم العسر المالي الذي كانت فيه يومذاك، تماما كما هي شاهد على فشل الدول التي فرضها الاستعمار الغربي التي عطلت هذا المرفق الحيوي المصيري رغم مرور قرن على أنظمتهم الخاضعة لإملاءات الاستعمار الغربي الكافر.
رأيك في الموضوع