مقومات أي شيء في الدنيا يُقصد بها العوامل والعناصر والشروط الرئيسية التي يوجد بسببها ذلك الشيء، والتي من دونها لا يوجد، فهي قوامه وعماده، ومقومات الدولة الإسلامية يُقصد بها العناصر والعوامل والشروط التي تقوم بها الدولة، وبمعنى آخر فالمقومات هي الركائز التي تستند إليها الدولة في وجودها وبسببها، ومن دونها لا توجد دولة، فقوام الدولة بجميع أركانه يُبتنى عليها، وعمادها بكليته يستند إليها.
ومقومات الدولة الإسلامية تُقسم إلى قسمين: فكرية ومادية، أمّا المقومات الفكرية فتتعلّق بواقع نظام الحكم، وقواعده، وصفاته، وشكله، وطريقة إيجاد السلطان فيه، وتحوّله، وأمّا المقومات المادية فتتعلق بالأمن والأمان، والقوة والنصرة والشوكة، والمكان وطبيعة الأرض ومساحتها، وموقعها الجغرافي والطبوغرافي، والموارد والثروات المتوفرة، والمرافق والتجهيزات الخدْمية المُتاحة، والبُنى التحتية الموجودة.
ولذلك لا تُعتبر دولة طالبان التي أقيمت في أفغانستان قبل الغزو الأمريكي دولة خلافة، لأنّها أعلنت عن نفسها أنها إمارة أفغانية، وليست دولة لكل المسلمين، وكذلك لا تُعتبر سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على بعض الأراضي في العراق والشام وفي بعض المناطق الأخرى دولة خلافة لأنّها تفتقد أصلا لأدنى مقومات الدولة - وسنتحدّث عن تلك المقومات بعد قليل - فهو ما زال تنظيما عسكريا يسيطر على مساحة من الأرض، مثله مثل بعض التنظيمات العسكرية، كما لم يحدث وأنْ أقيمت أي دولة إسلامية في أي مكان بعد آخر دولة إسلامية وجدت عند المسلمين وهي الدولة العثمانية، فالواقع أنّه لم تُقم دولة الخلافة نهائياً في أي قطر من الأقطار منذ زوالها على أيدي الكفار في العام 1342 هجرية الموافق للعام 1924 ميلادية.
ودولة الخلافة لا تعني مجرد السيطرة على مكان ما، وإنّما تعني الكيان التنفيذي لمجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات الإسلامية التي تقبّلتها غالبية المسلمين في قطر من الأقطار، أو تقبّلتها المجموعة الأكبر منهم، وهي رئاسة عامة للمسلمين جميعاً في الدنيا لتطبيق أحكام الدين الإسلامي وحمل دعوته إلى العالم.
لذلك كانت المفاهيم والمقاييس والقناعات المتعلقة بدولة الخلافة هي من أهم مقوماتها، فيجب أنْ تكون واضحة، مُبلورة، ومحدّدة في أذهان الناس عند قيام الدولة، بل وتُشكّل الرأي العام الأقوى من سواها لديهم بُعَيْد قيامها. ولذلك فإن الذين يسيطرون على مناطق من خلال القوة العسكرية التي يملكونها ويجهلون تلك المفاهيم والمقاييس والقناعات، ولا توجد لديهم أدنى معرفة بقواعد نظام الحكم في الإسلام، ولا يُميّزون بين الدولة الإسلامية والدولة الطائفية أو الدولة المذهبية، والفكرة لديهم عن طبيعة الدولة مبهمة وغامضة، ولا يملكون أدنى فكرة عن نظام الاقتصاد الإسلامي ولا عن السياسة الخارجية للدولة الإسلامية، ولا يقومون بطرح تلك الأنظمة على الناس، ولا يطبقونها في مناطق سيطرتهم، لا تُعد الدولة التي يعلنونها دولة حقيقية فضلا عن أن تكون دولة خلافة.
ولا يتحوّل السلطان عادةً في أي منطقة تحوّلاً حقيقياً إلا إذا تركزت عند الناس مجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات باعتبارها رأياً عامّاً ناتجاً عن وعيٍ عام، لذلك فلا يوجد أي سلطان إسلامي حقيقي في مناطق سيطرة تنظيم مسلح قام بالاستيلاء العسكري على تلك المناطق وأعلن نفسه دولة، فالاستيلاء شيء والسلطان شيء آخر.
هذا من حيث المقومات الفكرية لقيام دولة الخلافة، أمّا من حيث المقوّمات المادية فإنّ الدولة - أي دولة - لا تُقام إلا إذا توفّرت عدة عناصر وشروط مادية لا بُدّ من وجودها قبل قيام الدولة، ومن أولاها وجود القوة المادية التي تكفي لحماية القطر الذي تُقام فيه الدولة داخلياً وخارجياً لتحقيق الأمن والأمان للناس، وصد أي عدوان خارجي يُشن عليهم، وقد عُبّر عن مفهوم القوة عند علماء السلف بالشوكة، فقال الإمام الجويني: "إنّ العبرة ليس في العدد وإنّما في تحقيق الشوكة بهم"، وتحقيق الشوكة يستلزم حيازة ما يكفي من قوة لدفع الأعداء، والرسول eلم يقبل نصرة بني شيبان التي عُرضت عليه، لأنّ نصرتهم كانت مقتصرة على العرب دون العجم، فالنصرة من ناحيةٍ شرعية وواقعية يجب أنْ تكون كاملة غير منقوصة، وأنْ تشمل الحماية في الداخل وفي الخارج.
فلا يصح لأية جهة، سواء كانت تنظيما مسلحا، أو غير ذلك أن تعلن نفسها دولة، أو أن تعتبر أنها أقامت دولة، في حال عدم توفر المقومات المادية اللازمة لقيام الدولة، ففي العراق وسوريا مثلا عشرات الفصائل التي تُقاتل ضد الحكومة العراقية والحكومة السورية، وضد الكيانات الكردية، وبعض الفصائل تتقاتل فيما بينها، فلا يصح لتنظيم أن يعلن إقامة الدولة وهو لم يستطع حسم صراعه العسكري مع كل تلك الفصائل والكيانات والحكومات المعادية له والمتناقضة معه، فلم ينتصر عليها، ولم تخضع هي له، وبالتالي لم يستطع بسط سيطرته لا على العراق ولا على سوريا، وظلّت غالبية السكان فيهما خارجة عن سيطرته، وبقيت العواصم والمدن الرئيسية فيهما ليست بيده، كما بقيت الموانئ والمطارات وأهم المنشآت في الدولتين تحت سيطرة غيره، إذ بقيت بيد الدول القائمة سواحلُ البحار التي تصلح لأنْ تكون مصدر إمداداتٍ لوجستيةٍ مهمّة، والمطارات والطائرات، والموانئ والسفن، والمرافق الأساسية للدولة، وما فيها من بُنى تحتية.
إن الخلافة ليست دولةً تقليدية عادية كالدول التي نعهدها، فهي دولة عظيمة تُطبّق شرع الإسلام العظيم، وتحمل دعوته إلى العالم بالدعوة والجهاد، فأمرها عظيم، وشأنها جلل، وخبر قيامها سيحدث زلزالاً في الأوساط السياسية العالمية، وسينزل الإعلان عن قيامها نزول الصاعقة على الدول الكبرى الاستعمارية والطامعة، لأنّه ومنذ اليوم الأول لقيامها ستبدأ الموازين العالمية بالتغيّر، وسيشعر كل مسلمي الأرض بأنّ الدولة دولتهم، فيبدؤون بالاحتشاد والتجمع والانصهار والتوحد، وسيشْعر غير المسلمين من الشعوب الفقيرة والمستضعفة بأنّ الدولة الجديدة دولة عدل ورحمة، ستُنصفهم، وتُعينهم على التخلص من هيمنة أمريكا، وشركائها، من قوى الشرّ والطغيان، ومن جميع القوى الرأسمالية العالمية.
رأيك في الموضوع