ظهر مصطلح "المستبد العادل" عند بعض الكتّاب المعاصرين في وصف المسيرة السياسية للفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو الذي جسّد نموذج "الحكم الفردي" في الإسلام، واتسم بالحزم والمفاصلة، وحكّم - كبقية الخلفاء الراشدين - الإسلام بمفهومه السياسي الشامل، وبلا تمييز بين الراعي والرعية.
ولا يقتصر استخدامه على تلك المسيرة التاريخية، بل يُستخدم لوصف الرؤية المستقبلية للخليفة القادم، وخصوصا تلك التي يقدّمها حزب التحرير للحكم، وفصلّها في مشروع دستور دولة الخلافة الذي أعده ثم نقّحه بعدما عرضه على الأمة والعلماء للعمل، ويسعى لجعله موضع التطبيق في دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة القائمة قريبا إن شاء الله.
ويمثّل مفهوم "الحكم الفردي" منطلقا لكثير من الكتّاب والباحثين السياسيين للهجوم الفكري على الإسلام - كنظام حكم - لما أعطاه من صلاحيات للحاكم، تسهّل بنظرهم التحوّل لظلم الناس، ويعتبرونه مرادفا "للاستبداد"، وبالتالي قابلا للانبثاق في دولة الخلافة، وخصوصا كون الإسلام أوجب طاعة الحاكم: «تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ وَإِنْ جُلِدَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ» (رواه مسلم).
إن استبداد الحاكم كمفهوم سياسي انبثق في الفكر الغربي - على وقع تسلّط الملوك والكنيسة والإقطاع - وارتبط بمعنى انفراد الحاكم بالتشريع والسلطان، دون الخضوع للقانون ودون اعتبار لرأي المحكومين، ومن ثم شاع المصطلح بين الكتّاب العرب (الذين سخطوا على الخلافة العثمانية أو انحازوا مع أعدائها)، وخصوصا بعدما ألّف عبد الرحمن الكواكبي "طبائع الاستبداد"، واستخدم كل من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده مصطلح "المستبد العادل" تأثرا بالثقافة الغربية التي حملاها.
والحقيقة أن مراجعة مقدمة ابن خلدون تبرز أن مصطلح الاستبداد ورد فيها، ولكن بمعنى "الاستبداد على السلطان"، أي يكاد يكون معاكسا لما درج في الثقافة السياسية المعاصرة: مثلا عند وصف تمكّن البرامكة من مفاصل الدولة، واستبداد الوزراء أو القبيلة بالخليفة (على عكس استبداد الحاكم بالمحكوم)، وبمعنى الانفصال عن الحاكم "واستبداد كل أمير بقطره". إذن، فإن مراجعة التراث السياسي الإسلامي (كما في مقدمة ابن خلدون) ينفي تداول الحكم الفردي وطاعة الحاكم كثغرة يمكن أن تكون مدخلا لاستبداد الحاكم بالرعية، بل هو افتراء فكري معاصر على النظام الرباني.
هذا من حيث المراجعة التاريخية للمصطلح والدعوى، أما من حيث المراجعة السياسية لمفهوم الحكم الفردي: فإن الغرب جعل السلطات التشريعية والتنفيذية للحكم البشري، ولذلك وجد الحل بالديمقراطية التمثيلية، التي تمنع حصر ذلك بفرد الحاكم، فكان مفهوم الحكم الفردي مدخلا لاستبداد الحاكم وتكون قوانينه على هواه. أما الإسلام فجعل السيادة (التشريعية) لله سبحانه، وجعل السلطان (التنفيذي) للحكم البشري الفردي، المقيّد بأحكام الوحي. ولذلك فالحكم الفردي ليس مرادفا للاستبداد، طالما أنه ينفّذ التشريع الإلهي العادل.
أما من الناحية التشريعية: فإن وجود دستور دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة المرتقبة قريبا بإذن الله يمنع ظهور الاستبداد من الأساس، وهو المستمد من الوحي حسب قوة الأدلة الشرعية لا حسب هوى الحاكم ومزاجه، وهو الذي يحتكم إليه الحاكم والرعية.
ثم إن الدستور قد حدّد مفاصل وقائية وعلاجية ومعنوية تمنع ظهور ذلك الاستبداد المدّعى في الخلافة. أما الإجراءات الوقائية، فتمثلت بالمحاسبة السياسية والمحاكمة القضائية للحاكم، حسب ما يلي:
- المحاسبة السياسية عبر إقامة الأحزاب الإسلامية التي تراقب وتحاسب أداء الحاكم حسب الدستور الشرعي (انظر المادة 21)، وهي التي تمثلت في نموذج الخلافة الراشدة، حسب المقولة الشهيرة لسلمان الفارسي الذي سأل عمر "من أين لك هذا؟"، وحسب مقولة عمر "اللهم اكفني بلالاً وصحبه"، حيث مثلوا ما يشبه الحزب الذي يحاسب عمر.
- المحاسبة السياسية عبر مجلس الشورى الذي هو من مؤسسات الدولة، وهو غير حصري للمسلمين، بل يحق لغيرهم من الرعايا أن يترشحوا لعضويته، لتوصيل قضاياهم للحاكم والدفاع عن حقوقهم ومصالحهم (انظر المادة 105).
- المحاكمة القضائية عبر محكمة المظالم، التي تبتّ في القضايا المرفوعة ضد الحاكم وأعوانه ووزرائه وضد موظفي الدولة، حسب مواد الدستور (انظر المادة 87)، والتي لا يصح للخليفة أن يعزل قاضيها إذا كان ينظر في قضية ضد الخليفة (انظر المادة 88). فهي من حيث السلطة القضائية فوق الحاكم.
أما من حيث الإجراءُ العلاجيُّ فهو الكيّ إذا تعذرت العودة: فإن الحاكم المسلم إذا أظهر الحكم بما يناقض الإسلام وخرج عن عقيدته، فإنه يكون قد فتح على الأمة باب مواجهته - المسلحة - إذا أصرّ على تبديل الحكم الإسلامي، وهو ما تبيّنه محكمة المظالم.
فمن أين بعد ذلك يمكن أن يكون مدخل الاستبداد والظلم في دولة الخلافة؟
ثم هنالك الضابط المعنوي فوق تلك المحددات التشريعية، والذي جعل الرقابة الداخلية للمسلم أساسا راسخا في متابعة أعماله السياسية والحياتية، وهي رقابة تكون لدى الحاكم والمحكوم على حد سواء، ومن هنا جاءت أقوال عمر الشهيرة من مثل: "لو أن قدم شاة تعثرت في العراق لخفت أن يسألني الله عنها"، وقوله "يكفي أن يشقى بهذا الأمر واحدٌ من آل الخطاب". ولا شك أن الخلافة الثانية القادمة بنص خبر الرسول eهي من طراز تلك الخلافة الأولى: «ثم تكون خلافة على منهاج النبوة» (رواه أحمد).
إن الخلاصة أن الإسلام بتشريعاته الربانية قد ضمن تحكيمه العادل، ووضع إجراءات وقائية وعلاجية ومعنوية تمنع ظهور الاستبداد، كمصطلح نشأ في بيئة حكم غريبة عن تراث الأمة السياسي، ولا مكان لمصطلح المستبد العادل بل هو الخليفة الراشد. ويستلهم المسلمون دافعيتهم وتصورهم للحكم العادل من ذلك الوعد الرباني، ولا يمكن أن يسمحوا لأحد أن يخطف منهم تلك الرؤية مهما حمل من ألقاب، وتحصن بقوى مادية وسياسية.
رأيك في الموضوع