قالت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية بتاريخ 2/4/2024 إن التصريحات الأخيرة التي أدلى بها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والتي حث فيها على إنهاء الحرب على غزة، دون الإصرار على إطلاق سراح المحتجزين (الإسرائيليين) أولا، كانت بمثابة خروج آخر عن دعم المحافظين لرئيس وزراء كيان يهود بنيامين نتنياهو. وكان ترامب قد صرح لصحيفة نيويورك تايمز في 26/3/2024 قائلا: "(إسرائيل) تفقد الدعم الدولي، وعليها إنهاء الحرب على غزة، والمضي قدماً في عملية السلام. كما طالبها بأن تكون حذرة للغاية لأنها تخسر الكثير حول العالم، وتخسر الكثير من الدعم. وقال: "عليكم أن تنهوا حربكم.. عليكم أن تنجزوا الأمر.. علينا أن نصل إلى السلام.. لا يمكننا أن نسمح لهذا أن يحدث"!!
فهل هذه الدعوة تعبر عن موقف سياسي حقيقي، أم أنها تصب في مسألة السباق نحو البيت الأبيض والدعاية الانتخابية؛ وذلك حسب التغيرات السياسية العالمية، والأمريكية والإقليمية المتسارعة والمتجددة؟
ولفهم هذه التصريحات ومدلولاتها، لا بد من الوقوف على بعض المتغيرات والمستجدات والتطورات في الساحة الدولية والإقليمية، وفي داخل الولايات المتحدة نفسها خاصةً عند أعضاء الكونغرس بشأن الحرب على غزة، ومن هذه المستجدّات:
1- ما جرى في مجلس الأمن بتاريخ 22/3/2024 يعتبر تحولاً كبيراً في السياسة الدولية؛ حيث وقفت كل من الصين وروسيا لأول مرة منذ بداية الحرب في وجه الولايات المتحدة، ومنعتاها من اتخاذ قرار في مجلس الأمن للمضي قدما في سياساتها العملية تجاه الحرب على غزة من أجل تحقيق أهدافها من هذه الحرب، فقد ذكر الموقع الرسمي للأمم المتحدة في 22/3/2024: "لم يتمكن مجلس الأمن الدولي من اعتماد مشروع قرار أمريكي - يؤكد حتمية وقف إطلاق النار في غزة - بعد أن استخدمت روسيا والصين الفيتو (حق النقض)".
2- التغيرات في سياسة الحكومة الأمريكية نفسها تجاه الحرب حيث امتنعت الحكومة الأمريكية لأول مرة عن حجب الثقة ضد القرار الدولي في مجلس الأمن بتاريخ 26/3/2024، الذي يدعو إلى وقف الحرب وإطلاق سراح المحتجزين، وفي الوقت نفسه لم يذكر مسألة تجريم حماس في الموضوع بخصوص السابع من تشرين الأول/أكتوبر. فقد جاء في موقع الجزيرة نت بتاريخ 26/3/2024: "تبنى القرار أعضاء المجلس الـ10 غير الدائمين، وصوت 14 من أصل 15 عضوا لصالحه".
3- الرأي العام الدولي تجاه الجرائم المتتالية ضد المدنيين، وكذلك ضد سياسة التجويع التي تنتهجها حكومة كيان يهود للضغط على حماس، وقد تفاقم هذا الرأي العام، واتسع مناصروه بعد حادثة مقتل أعضاء من منظمة المطبخ المركزي العالمي في غزة الأسبوع الفائت حيث طالبت دولٌ أوروبية عديدة، على رأسها بريطانيا، باتخاذ إجراءات عملية ضد من نفذوا هذه العملية. فقد كشفت صحيفة صن البريطانية أن الحكومة البريطانية استدعت الثلاثاء، سفير كيان يهود في لندن للتعبير عن "تنديدها الحازم" بمقتل عمال الإغاثة في غزة، بينهم ثلاثة بريطانيين؛ ودعا رئيس الوزراء البريطاني، سوناك كيان يهود إلى توضيح ملابسات "الواقعة المأساوية".
4- الرأي العام الأمريكي من كلا الحزبين في الكونغرس، وكذلك منظمات المجتمع المدني وعامة الشعب في أمريكا. فقد ذكر سفير ترامب السابق لدى كيان يهود، ديفيد فريدمان، في مقابلة صحفية: "أنا أتفهم الخوف من الانعزالية الجمهورية، لأن هناك تياراً داخل الحزب الجمهوري يتحرك في هذا الاتجاه"!! وذكر موقع آر تي في 20/3/2024: "إن زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأمريكي تشاك شومر قد دعا الأسبوع الماضي إلى إجراء انتخابات جديدة في (إسرائيل)، معتبرا أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو "ضل طريقه" ويقف عائقا أمام السلام..."!!
وأمام هذه المتغيرات والضغوطات الداخلية والخارجية، وفي داخل الكونغرس الأمريكي، فإن كلا المتنافسين؛ ترامب وبايدن، قد بدءا باستغلال الأحداث في اتجاه الانتخابات، فما صدر عن ترامب وعن بعض السياسيين من مساعديه في الحزب الجمهوري هو تعبير حقيقي عن الواقع وتمشّياً مع السياسة الحالية، وليست هذه المرة الأولى التي يستغل فيها ترامب الأحداث في اتجاه دفع قاربه الانتخابي للأمام، فقد استغل موضوع الحرب على أوكرانيا من قبل ودعا إلى وقفها!! وقد عبر ترامب عن هذا الأمر (الحرب على غزة)، في مقابلة مع صحيفة إسرائيل اليوم اليهودية بتاريخ 26/3/2024، حيث حذر فيها دونالد ترامب من أن (إسرائيل) تفقد الكثير من الدعم الدولي؛ بسبب حربها في غزة، ودعاها إلى إنهائها والمضي قدما في عملية السلام. وقال: "عليكم أن تنجزوا الحرب.. أن تنهوها.. يجب أن تنتهوا منها"، وقال: "لقد حولت فيها الضربات (الإسرائيلية) قطاع غزة في معظمه إلى أنقاض"!!
إن مواقف ترامب الجديدة تختلف عن مواقفه السابقة في بداية الحرب؛ حيث كان موقفه في البداية يدفع باتجاه إحراج الرئيس بايدن في الكونغرس، في مسألة المساعدات لكيان يهود؛ ما دفع بايدن، أكثر من مرة، للخروج من المأزق؛ بربط حزمة المساعدات بموضوع المساعدات لأوكرانيا وتايوان ومسألة الحدود. فالسياسة عند الغرب - وخاصة رؤساء أمريكا -مبنية على البراغماتية وليست مبدئية، أي أنها تتصف بالواقعية والنفعية وتهتم بمجريات الواقع كما هو أكثر من الاهتمام بما ينبغي أن يكون، وهي دائمة التفكير في عواقب ونتائج كل ما تُقدِم عليه؛ أي أنها تهتم بالنتائج والمصالح بغض النظر عن الوسائل المستخدمة. فهي تستغل التيار وتسير معه، خاصة في المرحلة الانتخابية التي يبحثون فيها عن إرضاء الناخب الأمريكي. فالشعب الأمريكي قد غير نظرته للأحداث في غزة، وصار يطالب بمجمله بإيقاف الحرب. وأصبح هذا الأمر شبه رأي عام عند الشعب في أمريكا، حتى عند النخب السياسية، وفي داخل الكونغرس.
والحقيقة أن مثل هذه التصريحات تضع الحزب الديمقراطي في مأزق سياسي، وتفاقم الأزمة عليه أمام الناخب الأمريكي في الانتخابات القادمة، وهذا ما يفسر التصريحات الأخيرة لبايدن بشأن وقف الحرب دون أي ذكر لتجريم حماس كما ذكر في تصريحاته الأخيرة تمشيا مع الرأي العام في أمريكا وعند أعضاء الكونغرس من الديمقراطيين.
إن سياسات كلا الحزبين من الجمهوريين أو الديمقراطيين تصب في مصلحة أمريكا أولا، وفي مصلحة كيان يهود. فتأييد الحرب كان في البداية مصلحة انتخابية لكل من رئيسي الحزبين، ويصب في اتجاه إرضاء الشعب الأمريكي، والسير مع سياسات الكونغرس. وعندما تحول هذا الرأي العام ضد الحرب أصبح هناك تغير في المواقف لصالح الدعاية الانتخابية وسباق الوصول للبيت الأبيض، فكانت تصريحات ترامب الجديدة لركوب الموجة ولاستغلال الحدث في اتجاه الناخب الأمريكي، وهي تناقض وتخالف مواقفه السابقة الداعمة لنتنياهو ولحكومة كيان يهود.
وفي الختام نقول: إن مواقف الدول الكافرة، وعلى رأسها أمريكا، لا تجلب خيرا للمسلمين؛ حتى وإن وقفت في وجه كيان يهود، وإنما تسخر قضايا المسلمين لمصلحتها أولا، ولمصلحة كيان يهود، فوقف الحرب ضمن السياسات الأمريكية المقترحة لحل الدولتين، وإنهاء حماس عسكريا، هي مصلحة يهودية أولا وأخيرا وليست مصلحة للمسلمين ولا لأهل غزة، وإن الخروج من هذا الذل والهوان، ومن هذا التسلط الغربي على أرض المسلمين وأبناء المسلمين سواء أكان في غزة أم في غيرها لا يكون إلا بوحدة هذه الأمة، في ظل دولة واحدة تتصدى لسياسات الكفار جميعا، وعلى رأسهم أمريكا وكيان يهود. فنسأله تعالى ونحن في خواتيم شهر الخير والبركة والنصر أن يكرم أمة الإسلام بالفرج العاجل والتمكين في ظل خلافة راشدة على منهاج النبوة، اللهم آمين.
رأيك في الموضوع