بعد مرور ثلاثة عشر عاما أغلقت مصر قضية منظمات المجتمع المدني تزامنا مع مباحثات مصرية أوروبية أسفرت عن منح مصر قروضا تصل لـ12 مليار دولار في إطار ما نستطيع أن نسميه تعويما للنظام المصري، ولعل إغلاق هذه القضية كان مطروحا على الطاولة أو لعله ما يراد أن يكون سببا معلنا لمنح تلك القروض.
مع علمنا أن قضية تلك المنظمات لم تكن تمثل هاجسا للنظام فجميعها مرتبط بالغرب من ناحية الأفكار التي تحملها والتي تسعى لتجسيدها في المجتمع وتمويلها كله يأتي من الغرب، فهي منظمات وجمعيات تحمل أفكار الغرب وتدعو إليها وتحارب ما عداها من أفكار ولا يوجد غير الإسلام فكرا يصارع أفكار الغرب ويستطيع هزيمتها، فهم يحاربون أفكار الإسلام ضمنا بحسن نية أو بسوئها، وعلموا ذلك أم جهلوه، أي أنهم في واقعهم لا يختلفون عن الحكام والنخب في كونهم أدوات في يد الغرب يحركها كيفما شاء على اختلاف التوجه والولاءات.
ما لوحظ في قضية المنظمات المطروحة والتي أغلقت مؤخرا أنها فتحت في عهد المجلس العسكري بعد ثورة كانون الثاني/يناير لضلوع المنتمين إليها في الثورة ومشاركتهم في فعالياتها، ورغم هذا لم تشمل 15 ناشطا أجنبيا متهمين على ذمة القضية نفسها، بينهم 8 أمريكيين، سمح المجلس العسكري في 2012 بخروجهم من مصر بقرار قضائي مفاجئ جاء بعد تدخل الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، فما الفارق بينهم وبين غيرهم ممن ظلوا تحت طائلة القرار والتحفظ على الأموال والمنع من السفر حتى صدور القرار الأخير؟
من الواضح هنا أنه ورغم الاتفاق في الأهداف والغايات بين هذه المنظمات ومن خلفها وبين النظام من حيث تركيز مفاهيم الغرب وثقافته ووجهة نظره في الحياة والعمل على جعل الديمقراطية هي هوية مصر وأهلها بعد أن أجبروا على الخضوع لها والعيش في ظل حكمها، ورغم الاتفاق على عداء الإسلام وأفكاره التي تقف حائلا دون تمكن مفاهيم الغرب من الناس، إلا أنه يبقى صراع ولاءات ومحاولات أوروبية لا نقول لمنافسة أمريكا وعملائها ولا حتى مزاحمتهم، بل مجرد مناوشة غايتها فضح عملاء أمريكا وإحراجهم والحصول على مكتسبات من خلال ذلك حتى لو كانت قليلة.
فهذه المنظمات ومن يعملون من خلالها هم أدوات غربية غاياتها متعددة قد تشمل قراءة الرأي العام وقياس نبض الناس وتوجهاتهم ورفع تقارير بذلك للسادة في الغرب تعينهم على وضع خطط التآمر على بلادنا وشعوبنا، فهم في الحقيقة يكملون دور الحكام من هذا الباب، ومن باب آخر فهم يعملون على صرف عيون الناس عن سوءة النظام وإظهار أن الأزمة هي في رأسه فقط، شأنهم شأن كل من يفكر من خلال الواقع وداخل الإطار، وهو ما يريدون حصر الناس فيه وتحديد خياراتهم في إطار ما يراه الغرب ويخدم مشاريعه ويبقي على هيمنته على مصر واستعباد أهلها، والدولة عندما تمنعهم وتحاربهم فغايتها إما تلميعهم وإيجاد نوع من القبول لهم عند الناس ليتمكنوا من خداعهم بوسائل جديدة، أو لكونهم منافسين في العمالة أو لاختلاف الولاءات ولكونهم يعملون لسيد آخر غير السيد الذي يمسك بخيوط النظام، فرغم اتفاق الغاية هناك خلاف وصراع بين الأدوات وصراع على المصالح بين المتصارعين عليها من ناهبي الثروات الكبار، وتبقى شعوبنا وبلادنا هي الضحية التي تُسرق وتنهب وتذبح وتعطى غنيمة سائغة للغرب.
للغرب في بلادنا مآرب وهو بحاجة إلى أدوات لتحقيقها؛ أحدها النظام الذي يسعى لتعويمه بحزم القروض التي تمكنه من العيش دون إنقاذه فيبقى على الدوام محتاجا للغرب مرتميا في أحضانه عاملا على تنفيذ خططه ومشاريعه والسير قدما في مؤامراته على الأمة، وخاصة الآن في ظل اشتعال غزة التي لا يعرف متى تنطفئ ومن سيحترق بنارها من تلك الأنظمة الوظيفية المهترئة. إضافة إلى تلك الأنظمة كانت منظمات المجتمع المدني التي قد تشكل بنفسها أو من خلالها وسطا سياسيا يحمل أفكار الغرب ويوجد لها تربة خصبة فيرفع شعارات الوطنية والقومية وغيرهما وينطلق في بحث قضايا الأمة من منطلقها، فينظر لفلسطين كقضية قومية عربية لدولة جارة شقيقة وليس كقضية أمة يجب تحريرها من مغتصبيها وطردهم منها كاملة، ولهذا فخيار فتح المعابر وتقديم المساعدات وإسعاف الجرحى ومقاطعة منتجات الدول الداعمة هو أقصى طموحهم وبه يشعرون أنهم قدموا شيئا لفلسطين، وبهذا يبتعدون بالناس عن الذي أوجبه الشرع تجاه فلسطين وأهلها وهو وجوب تحريك الجيوش فورا واقتلاع كيان يهود من جذوره وقلع كل ما من شأنه أن يحول بين الجيوش وبين تحرير فلسطين، أي تحرير القاهرة قبل تحرير فلسطين ونصرة غزة، فالنظام هو حارس كيان يهود، وهو الذي يمنع تحرك الجيوش ويحول بينهم وبين تحرير الأرض المباركة ونصرة أهلها.
فحاجة الغرب لمثل تلك المنظمات لا غنى عنها، فهي تساهم في صرف الأنظار عن خطايا الأنظمة العميلة، ولهذا كان ربط المنح والقروض والمساعدات بالإفراج عن تلك الأدوات أولا لتحريرها وإعطائها القدرة على العمل، وثانيا لطمأنتها من ناحية الأنظمة فتعمل بأريحية لتحقيق مآرب وغايات الغرب في بلادنا.
إن السؤال الذي يجب أن يطرح الآن، إلى متى تظل بلادنا مطمعا للغرب منهوبة الخيرات مسرحا لألاعيبه وخططه ومؤامراته؟ وإلى متى تظل دماؤنا هي التي تسيل قربانا على مذبحه؟!
أليس في الأمة رجال مخلصون؟! ألا تملك فكرا قادرا على التصدي لهم ولأفكارهم؟! ألا تملك مشروعا بديلا قادرا على قيادتها والسير بها في طريق نهضتها؟!
قطعا تملك الأمة كل هذا وأكثر فهي تملك المشروع البديل الجاهز للتطبيق والمتمثل في مشروع دولة الإسلام الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، ولدى أبنائها المخلصين كل الجاهزية لتطبيقه من فورهم لا ينقصهم إلا نصرة صادقة مخلصة من جند الأمة المخلصين، وأولاهم بهذا جيش الكنانة، خير الأجناد، فمتى نرى منهم من يبسط يده للمخلصين العاملين لتطبيق الإسلام ليعينهم ويوصل الإسلام معهم للحكم من جديد ليقضي به وبدولته على أطماع الغرب في بلادنا ويقطع أيديهم الناهبة لثرواتنا؟ والله إنه لعز الدنيا وكرامة الآخرة، نسأل الله أن يكون لمصر وأهلها وجندها منه نصيب.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾
بقلم: الأستاذ محمود الليثي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر
رأيك في الموضوع