بعد مرور أحد عشر شهرا من الحرب، انكشفت كثير من الحقائق التي كانت تخفى على كثير من أهل السودان، بعد أن كان البعض يأبى حتى مجرد النقاش حولها، إلا أنه مع استمرار الحرب فقد أزيل كثير من الغشاوة حول حقيقة الصراع في السودان بين العسكر والمدنيين، وفُككت كثير من علامات الاستفهام والتعجب، وتجلت الحقيقة الدامغة أنه ليس هناك مستفيد من الحرب في السودان غير المستعمر الأمريكي في صراعه مع المستعمر الأوروبي على النفوذ، وعلى التحكم في مقدرات وثروات السودان؛ هذا البلد الغني الثري بأهله وموارده!
وما زال سكان الخرطوم وكثير من الولايات يواجهون مرارات هذه الحرب، من نزح منهم أو من بقي فيها، فالجيش يمنع ساكني الخرطوم من دخولها بحجة أنها أضحت مستقرا لقوات الدعم السريع، وأنها غير آمنة للسكن، هذا الأمن والأمان الذي صعب على قادة الجيش تحقيقه رغم أنه في قدرتهم ووسعهم إنهاء الحرب.
كما فشل أهل البيوت المنهوبة طوال هذه الفترة في إقناع الجيش ليهب لحمايتها، وصون ممتلكاتها، حتى أصبحت مستباحة لكل مستبيح للحرمات!
وجنود الدعم السريع يقولون إن البيوت الخالية التي هرب أهلها من لهيب الحرب، وقاذفات المدافع والطيران هي بيوت (الفلول والكيزان)، أي أتباع النظام السابق برئاسة البشير الذي صنع قوات الدعم السريع، وأدخلها في معترك الحياة السياسية، والاقتصادية، والأمنية!
أما اللصوص من غير قوات الدعم السريع الذين انتشروا بكثافة يسرقون كل شيء حتى الملابس ودواليبها، وفرش النوم بل حتى الصحون والملاعق لم تسلم منهم، فيقولون إن أصحابها هربوا منها، إذن هم يدركون عواقب إهمالهم لبيوتهم، ولو كانوا مهتمين لأتوا لحراسة ممتلكاتهم! هكذا يبررون فعلتهم الشنيعة!
فصار حال أهل السودان بين نازح في بلاده أو صابر على جحيم هذا الصراع المسلح بين أبناء البلد لتحقيق أجندة خارجية!
لقد خسر أهل الخرطوم المأوى، والمال، والأثاث، والحماية، فضلا عن الأرواح والدماء والأعراض... ولا جرم أن وحدات الجيش بمسمياتها المختلفة تبعد فقط كيلومترات أو أقل، من الأماكن المستباحة، وفي مقدرتها الدفاع عنها واستردادها إلا أنهم يقولون إن اللجام لم يفك بعد، وأنهم فقط يتفرجون!
والحقيقة الصادمة هي أن قادة الجيش وقادة الدعم السريع، قد استبسلوا وبرعوا واستماتوا في تنفيذ الأجندة الأمريكية، فقد أحرقوا البلاد وأفقروا أهلها في صراع استعماري على النفوذ بين أمريكا وبريطانيا على السودان عبر شعار كبير وهو "من يحكم السودان العسكر أم المدنيون؟" وذلك كله تحت أكذوبة إقامة الحكم الديمقراطي!
أما السياسيون المدنيون عملاء بريطانيا فهم في سفر وتجوال بين الدول والعواصم (يلتقون.. ويتلقَّون) وهم يعرضون مشاكل البلاد للدول والمنظمات العالمية لتتدخل لإيقاف الحرب!!
والبرهان القائد العام للجيش، ورئيس المجلس السيادي، الذي في الأصل، أنه منصب منوط به القيام بمهمة حماية الناس ورعايتهم، إلا أنه لا يملك إلا أن يتوعد من شاء، هنا وهناك... مكررا أنه لن يوقف الحرب حتى يقضي على آخر جندي.. والجنود محبوسون في ثكناتهم ينتظرون فك اللجام!!
فأصبح سكان الخرطوم، وولاية الجزيرة حاضرها وقراها، وولايات ومدن وقرى دارفور، وكردفان، بل قل السودان كله... هكذا أصبح وبات، بلا دولة ولا راع، ولا حام... فانسجمت المائة عام من الاستعمار بعد هدم دولة الإسلام والمسلمين في الأرض (الخلافة) مع أحد عشر شهرا من الحرب في السودان!
ففي السودان الحكومة (العسكر) والمعارضون (المدنيون) يرسمون خارطة الحكم الذي اغتصب سلطان المسلمين قبل مائة عام بالتمام، ولكن من هذه المائة ستبين لك هذه الأحد عشر شهراً فظاعة هذا الحكم الذي يتفق عليه كل الفرقاء المتشاكسون؛ فقائد الجيش يقول إنه يريد أن يسلم البلد لحكم ديمقراطي بعد انتخابات نزيهة، والدعم السريع يقول إنه ما قاتل ونهب واغتصب إلا ليتحقق الحكم الديمقراطي! كذلك المدنيون، فهم يرون أن الديمقراطية في أصلها لا تقبل بحكم العسكر فهم أولى الناس بتطبيقها بإرجاع العسكر للثكنات، ومن ثم إقامة حكم الشعب للشعب بتشريع الشعب... ها هي أكذوبة وخرافة الديمقراطية التي لم ولن تتحقق في بلاد المسلمين!!
هذه هي لعبة المستعمر القذرة التي أدخل فيها أبناء المسلمين وجعل بلادهم الطيبة ميدانا كبيرا للعب والدمار والخراب، حسب طريقته ونظرته للحياة... بل ونصب الكافر المستعمر نفسه حكما وحيدا يحتكم له الجميع (حكومات ومعارضات) إلا أبناء الأمة المخلصين الذين يحملون مشروعا للخلاص من هذا اللعب والسفه الديمقراطي.
لقد مرت مائة عام بالتمام والكمال بعد إسقاط الخلافة منذ آذار/مارس 1924م، وتحكم الكافر المستعمر في بلاد المسلمين وتنصيبه فيها نواطير (حكاما ومعارضة) ليحافظوا على نظامه، ويحرسوا إرثه، ويدافعوا عن ثقافته، وللأسف العملاء من العسكر والمدنيين يعملون جاهدين للحيلولة دون إقامة نظام الإسلام الذي هو المخرج الوحيد من ألعوبة المستعمر، بإقامة دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
بعد مائة عام من هدم الخلافة وبعد أحد عشر شهرا من حرب الخرطوم وجب على أهل السودان أن يقلبوا الطاولة على عملاء المستعمر (عسكر ومدنيين)، ليحققوا تغييرا جذريا لمنظومة الحكم، لكن هذه المرة على أساس الإسلام ودولته الشرعية، فقد وصل كل من له عقل مستقيم وقلب سليم في السودان لقناعة أن النخب السياسية المتحكمة في الشأن السياسي حكومة ومعارضة كلهم وجهان لعملة واحدة، ينفذان أجندة الكافر المستعمر، بدليل أنه برغم تشريد الناس ونهب ثرواتهم وانتهاك حرماتهم، إلا أن الناس لا يسمعون ولا يرون من العسكر والمدنيين إلا بضاعة المستعمر المزجاة؛ إقامة نظام ديمقراطي. ولكن لماذا ترفضون نظام رب العالمين الخلافة أيها العسكر والمدنيون؟ ما لكم كيف تحكمون؟!
نحمد الله تعالى برغم شدة الابتلاء في هذه الحرب إلا أن ما يدور من كشف للحقائق يؤكد أننا نمر بإرهاصات تنذر وتبشر بتغيير جذري سيكون قريبا بإذن الله تعالى، في بلاد المسلمين عامة والسودان بخاصة، بعد أن أيقن الناس أنه لا مدنية ولا عسكرية تعبر عنهم، فقد سقطت هذه الشعارات ولم يبق إلا أن يتم الله نوره، وينجز وعده سبحانه، وبشرى رسوله ﷺ، بسقوط النظام الديمقراطي والحكم الجبري بضاعة الكافرين المستعمرين، لتحل الخلافة الراشدة على منهاج النبوة في محلها وموضعها الطبيعي في حكم المسلمين ورعايتهم وحمايتهم بل بسط الأمن والأمان في العالم كله.
﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾
* مساعد الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع