قامت طائرات إف-35 التابعة لكيان يهود بجريمة قصف مباني القنصلية الإيرانية، فهاجمتها بأربعة صواريخ أمريكية فتّاكة في دمشق في 01/04/2024، مُخالفةً بذلك جميع الأعراف والقواعد الدولية التي تنص على حُرمة التعدي على المواقع الدبلوماسية التي لها حق الحصانة بكفالة المُجتمع الدولي، لكنّ كيان يهود ضرب بهذه الحصانة عرض الحائط، واعتبر نفسه فوق القانون الدولي، فلم يُبالِ باختراقه وتجاوزه، خاصّة وأنّ الضحايا هم من العرب والمسلمين فقط.
ومع أنّ كيان يهود يعرف هذه الحقائق الدبلوماسية جيداً لكنّه تعمّد تجاهلها لتحقيق مآرب سياسية مُعيّنة، قالت القناة 12 العبرية: "إنّ القنصلية تمثل أراضي مستقلة للدولة التابعة لها، أي أنّ الهجوم على القنصلية الإيرانية هو بمثابة هجوم على أراضي إيران".
وقد قُتل في هذا القصف 8 إيرانيين و5 سوريين ولبناني واحد، ومن القتلى الإيرانيين سبعة مستشارين عسكريين كبار، من بينهم محمد رضا زاهدي، القائد الكبير في فيلق القدس الذي يُعتبر الذراع الخارجي للحرس الثوري الإيراني.
وتقول وكالة أنباء رويترز: "إن قصف مقر القنصلية الإيرانية في دمشق يأتي كنوع من التصعيد للحرب التي تشنها (إسرائيل) على وكلاء إيران في المنطقة"، وتضيف: "إنّ (إسرائيل) عادةً ما تستهدف المنشآت العسكرية الإيرانية، والمنشآت الأخرى التابعة لوكلاء طهران في سوريا منذ فترة طويلة، غير أنّ هذه تعد المرة الأولى التي تقصف فيها مجمع السفارة الإيرانية نفسه".
فما قام به كيان يهود يُعتبر تجاوزاً لكل الخطوط الحمراء، وهو إنْ دلّ على شيء فإنّما يدل على خروج كيان يهود عن حدوده المرسومة له، مُحاولاً توريط أمريكا في صراع أكبر في المنطقة، لتخفيف الضغط عليه، وللخروج من مأزق صعب آل إليه في هذه الأوقات، فحكومة نتنياهو تعيش اليوم في أسوأ فتراتها، فلا هي قادرة - وبعد مُضي ستة أشهر من الحرب - على تحقيق إنجازات ملموسة في غزة، ولا هي قادرة على إقناع الرأي العام الأمريكي والغربي باستمرار مشروعية حربها، واستمرار المجازر اليومية التي ترتكبها، إذ فقدت الغطاء السياسي الذي منحته أمريكا ودول الغرب لها بسبب حربها الوحشية تلك، وبسبب عدم تحقيق أهدافها منها، وبدا لها أنّ الدعم الواسع الذي حظيت به مُنذ بدء الحرب قد بدأت تخسره بالفعل، فأصبحت تتخبّط في قراراتها، وتتعنّت في رفضها لإيقاف إطلاق النار، ووجدت في قصف القنصلية الإيرانية في دمشق مخرجاً لها، لعلّها تنجح في فتح جبهة جديدة تُشغل أمريكا والعالم بها، وتُخفّف عنها الضغط الأمريكي الواقع عليها.
وتحدّث رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد حسين باقري - وهو القائد العسكري الأعلى رتبة في البلاد - السبت 06/04/2024 في جنازة محمد رضا زاهدي فقال: "إنّ الأمر متروك لإيران لتُقرّر كيف ومتى سترد على الهجوم" وتعهّد بأنّ أي انتقام سيتم تنفيذه "بدقة"، ثمّ قال: "بالتأكيد سوف ننتقم"، فكلمة (بدقة) الواردة في كلامه تعني أنّ الردّ على الأغلب سيكون باهتاً.
ثمّ حمّلت إيران أمريكا مسؤولية الهجوم، فقال علي شمخاني المستشار السياسي للمرشد الإيراني علي خامنئي: "إنّ الولايات المتحدة مسؤولة بشكل مباشر عن الغارة التي شنتها القوات الجوية (الإسرائيلية) على القنصلية الإيرانية"، وأعلن وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان أنّه أرسل رسالة مهمة إلى الولايات المتحدة شرح فيها البعد الإرهابي للهجوم، وللجريمة التي قام بها كيان يهود، وأكّد على مسؤولية الحكومة الأمريكية عن هذا الهجوم، وعزا توجيه رسالة لواشنطن باعتبارها شريكاً للنظام الصهيوني، مضيفاً أنها "يجب أن تتحمل المسؤولية".
إنّ لسان حال الساسة الإيرانيين يشكو لأمريكا من خلال تحميلها المسؤولية عن ذلك القصف، ويُعبّر عن شكوى مريرة لولي الأمر، وكأنّهم يقولون لأمريكا: ماذا نصنع؟ ماذا عسانا أنْ نفعل؟ ما هو المخرج الذي يحفظ لنا ماء وجهنا بعد هذا القصف؟!
فتُجيب أمريكا إيران بأنّ عليها الاستمرار (بسياسة الصبر الاستراتيجي!) بشكلٍ عام، وأنْ تلعق الإهانات التي تُلحقها بها دولة يهود ولو كانت هذه المرة ثقيلة، ورسمياً فأمريكا نفت تماماً علمها بالهجوم، وقال المُتحدّث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي، تعليقاً على الاتهام الإيراني لأمريكا بالمشاركة بالهجوم: "دعوني أكون واضحا، لا علاقة لنا بالهجوم على دمشق، ولم نشارك فيه". وكأنّ أمريكا تقول لإيران من خلال هذا التصريح إذا أردت أنْ ترُدّي على قصف كيان يهود فلا تقتربي من المنشآت العسكرية الأمريكية في العراق، ولا في المنطقة، ومسموح لك أنْ تضربي مصالح كيان يهود بقيود.
فهذا السماح ليس مُطلقاً بحيث يخلق حرباً جديدة في المنطقة، ويمنح كيان يهود الفرصة لإغراق أمريكا في مُستنقع الشرق الأوسط، وهي التي تحرص على عدم توسيع نطاق الحرب منذ بدايتها، وهي التي ما فتئت تُشدّد على عدم توسيعها باعتبار ذلك من أهم أولويات سياستها الخارجية في الشرق الأوسط، لذلك فرسالة أمريكا التوجيهية إلى إيران أنْ يكون ردّها محدوداً، غير مؤثّر ولا وزن له، كأنْ تقوم بعض مليشيات إيران بإطلاق القذائف الصاروخية غير الفعّالة على كيان يهود، فيُعتبر ذلك رداً مُناسباً في الوقت الراهن، وأمّا الرد الوهمي (الأكبر) فيُترك للزمان والمكان المُناسبيْن ضمن استراتيجية (الصبر الاستراتيجي)! واستراتيجية (الاحتفاظ بحق الرد) إلى يوم القيامة!
إنّ إيران لا تجرؤ ولا تملك القيام بعمل كبير ضد كيان يهود بدون موافقة أمريكية، ولقد عهدنا ردودها الباهتة على مدى عقود على كل الانتهاكات التي قام بها كيان يهود ضدّها، فهي لم ترْقَ إلى مستوى الاعتبار، وذلك لحقيقة أنّها دولة تدور في فلك أمريكا مُنذ مجيء ثورة الخميني، وهي تقتات على بقايا ما تُلقيه لها أمريكا من فتات هنا وهناك، ولها دور وظيفي واضح في قيادة محور المُقاومة الكاذب، والذي هدفه الحقيقي تحديداً هو إحباط مشروع المُقاومة الحقيقية، ومُحاولة التحكم بها، ومنع خروجها عن السيطرة.
رأيك في الموضوع