برزت مسألة التنافس السياسي بين الحزبين الكبيرين في أمريكا، الجمهوري والديمقراطي، بشكل واضح جليّ في أزمة رفع سقف الدين العام من خلال تصريحات قادة الحزبين لدى الصحافة ووسائل الإعلام الأمريكية. فقد أوردت صحيفة العربي الجديد بتاريخ 10/5/2023: "اتفق الرئيس الأمريكي جو بايدن وكبار المشرعين، أمس الثلاثاء، على إجراء المزيد من المحادثات التي تهدف إلى كسر الجمود بشأن رفع سقف الدين الأمريكي البالغ 31.4 تريليون دولار، وذلك قبل ثلاثة أسابيع فقط من احتمالية تخلف البلاد عن السداد على نحو غير مسبوق".
وأوردت جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 10/5/2023 على لسان بايدن قوله: "إن الجمهوريين يأخذون اقتصاد البلاد رهينة، برفضهم الموافقة على رفع سقف المديونية العامة، ما لم يُقدِم هو على اعتماد اقتطاعات كبيرة في الميزانية. وقال الرئيس الديمقراطي إنه سيبلِّغ قادة الكونغرس عندما يلتقيهم، الثلاثاء المقبل، بأن عليهم القيام بما قام به كل كونغرس آخر؛ وهو رفع سقف المديونية، وتفادي التخلف عن السداد". وقال بايدن، خلال اجتماع اقتصادي، الجمعة، إن الجمهوريين "يحاولون أخذ الدين رهينة، لدفعنا إلى الموافقة على بعض الاقتطاعات الجائرة". أما زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر فقال: "إن سياسة حافة الهاوية مع الحد من الديون ستكون ضربة هائلة للاقتصادات المحلية والعائلات الأمريكية، ولن تكون أهون من أزمة اقتصادية على أيدي الجمهوريين".
وأما زعيم الجمهوريين في مجلس النواب، ورئيس المجلس كيفن ماكارثي، فقد أكد بعد اجتماع مع بايدن في 9/5/2023: "أن النواب الجمهوريين يضطلعون بمسؤولياتهم؛ عبر وضع خطة لرفع سقف الدين العام، تنص على اقتطاعات في الميزانية، متهما بايدن بأخذ البلاد رهينة" وقال: حوالي 40 عضوا جمهوريا في مجلس الشيوخ في نهاية الأسبوع: "لن نصوت لصالح نصّ يرفع سقف الدين من دون إصلاحات جوهرية في الميزانية والإنفاق الحكومي".
أما وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين فقالت لقناة سي إن بي سي بتاريخ 8/5/2023: "إن هناك فجوة كبيرة بين موقفَي الرئيس جو بايدن والجمهوريين؛ فيما يتعلق برفع سقف الدين. وأكدت يلين أن فشل الكونغرس في رفع سقف الدين سيتسبب في ضربة هائلة للاقتصاد الأمريكي، ويُضعف موقف الدولار؛ بوصفه العملة الاحتياطية العالمية".
فما حقيقة هذا الصراع الدائر اليوم في مسألة سقف الدين؟ وما هي تبعاته على الفرد الأمريكي، وعلى أمريكا بشكل خاص، وعلى الاقتصاد العالمي بشكل عام؟
المقصود بسقف الدين الأمريكي هو الحد الأعلى للمبلغ الإجمالي، الذي يسمح للحكومة الفيدرالية الاقتراض عبر سندات الخزانة الأمريكية وسندات الادخار. وسبب الاقتراض هو وجود عجز في الميزانية، فلا تجد الإدارة الأمريكية سبيلا سوى الاقتراض لمواصلة سداد التزاماتها المالية، وتسديد فواتيرها؛ مثل مدفوعات الضمان الاجتماعي، واسترداد الضرائب، وربا الدين الحكومي، والدفاع الوطني، وغير ذلك... وفي الحقيقة هناك مشاكل كبيرة اقتصادية تواجه أمريكا، وهي تحاول إخفاءها أو القفز عنها بوسائط عديدة منها مسألة رفع سقف الدين، ومن هذه المشاكل التي باتت تتفاقم وتزداد، مسألة الدين الأمريكي العام، والتضخم النقدي، والعجز في الميزان التجاري الأمريكي، وكثرة الإنفاق الداخلي والخارجي. فهذه بعض الأزمات التي يعاني منها الاقتصاد الأمريكي، وتؤرق الساسة والاقتصاديين على السواء، ويحاول الساسة في كل مرة القفز عنها بأساليب ووسائل متعددة، تجر على المجتمع وعلى الاقتصاد وعلى المؤسسات الاقتصادية الكوارث. فقد بلغ مجمل الدين الأمريكي العام 31.4 تريليون دولار منها ديون خارجية وداخلية. وبلغ التضخم الأمريكي 9.1% في بدايات العام الحالي؛ ما دعا الفيدرالي الأمريكي إلى رفع سعر الربا أكثر من مرة خلال العام الفائت والحالي لتصل إلى 5%. أما العجز في الميزانية الأمريكية فقد ارتفع من 668 مليار دولار إلى 1.1 تريليون دولار عام 2023.
وليست هذه المرة الأولى التي تحاول أمريكا فيها القفز عن موضوع الدين لتخطي الأزمات الاقتصادية، ومع ذلك فالأزمات تتسع ولا تضيق، ومعظم الخبراء الاقتصاديين يرون أن أمريكا لم تتعاف حتى الآن من أزمة سنة 2008. فالأزمات تتراكم والديون ترتفع والتضخم والعجز في الميزانية في ازدياد، والشعب الأمريكي والمؤسسات المالية تدفع الثمن، ما يسبب انهيار البعض منها مثلما حصل مع بنك سيلكون فالي، وبنك سيغناتشر وفيرست ريبابلك ومعه مجموعة من البنوك الداخلية، ويتسبب كذلك بموجات غلاء بسبب الآثار الجانبية لرفع سعر الربا المتكرر، وبالتالي اضمحلال المشاريع الإنتاجية؛ ما يؤثر في اتجاهين: الأول ارتفاع الأسعار، والثاني ارتفاع البطالة بسبب اضمحلال المشاريع الإنتاجية بسبب نسبة الربا العالية المترتبة على الاقتراض من البنوك.
إن موضوع القفز على الدين الأمريكي برفع سقفه إلى معدلات كبيرة تكتنفه أمور عدة من حيث التأثّر والتأثير منها:
- تمويل أوكرانيا، وتأثير ذلك على الدين العام الأمريكي، وقد حذر الجمهوريون من ذلك أكثر من مرة.
- الانتخابات الأمريكية، وما يحصل من تنافس مميز في التاريخ الأمريكي، ومؤامرات كلا الحزبين، ومحاولة كل طرف الضغط على الآخر للتأثير على الناخب الأمريكي. فالجمهوريون يحملون الديمقراطيين السبب في ارتفاع سقف الدين لكثرة الإنفاق دون مبرر. والديمقراطيون يستغلون عدم رفع سقف الدين ضد الجمهوريين بأنهم يتسببون بنقص الوظائف والأجور والمستحقات للأمريكيين.
- الموقف العالمي للدولار واهتزاز صورته؛ بسبب طبع المزيد منه دون سند اقتصادي حقيقي، وطرح أرقام متزايدة من سندات الخزينة الأمريكية لرفع سقف الدين. وهذا أدى إلى تحريضات جديدة ضد مسألة التفلت من الدولار خاصة عند بعض الدول الأوروبية والصين. فرفع سقف الدين معناه طباعة سندات خزينة جديدة دون رصيد حقيقي وبالتالي خفض قيمة الدولار ثم العودة إلى طريقة العلاج الخاطئة برفع سعر الربا.
إنه وفي ظل هذه المعطيات السياسية والاقتصادية فإن أمريكا تزيد من سطوتها العالمية حتى تبقي قدرتها على التحكم باقتصادات العالم؛ وبالتالي رفع سقف الدين، وإصدار سندات جديدة تغطي موضوع الخلل الاقتصادي الكبير. ولا يخفى ما تقوم به أمريكا تجاه أوروبا والصين وروسيا، وما تفعله من إثارة الفتن والمشاكل العالمية المتصاعدة يوميا هنا وهناك.
أما ما يجري من تنافس سياسي بين الحزبين فإنه أيضا يؤثر على أمريكا داخليا، ويظهر العوار الذي يعيشه اقتصادها، ويُظهر كذلك مدى المصلحية والأنانية التي يفكر بها كلا الحزبين من أجل استمالة الناخب الأمريكي. فالحزب الديمقراطي يفكر في رفع سقف الدين لإرضاء الشعب حتى لا تتأثر بعض الأمور التي تخص دخله وخدماته. والجمهوريون يتذرعون بمسألة الإنفاق الباهظ التي يقوم بها الحزب الجمهوري، خاصة الخارجية منها، وبالتالي وضع الحزب الديمقراطي أمام أزمة مع الشعب، بأن السبب في رفع سقف الدين هو ما يقوم به الحزب الديمقراطي وما يهدره من أموال. وهذه سياسة معروفة عند الأحزاب الأمريكية في المماحكات السياسية، والتشهير بالحزب المنافس، فقد سحب بايدن قواته من أفغانستان بشكل مهين؛ ليثبت فشل الجمهوريين في جرّ أمريكا إلى حروب لا طائل منها. والحزب الجمهوري يدعو إلى سحب الدعم الأمريكي لأوكرانيا، ويتهم الديمقراطيين بأنهم أغرقوا أمريكا في الديون الجديدة؛ ما دعا إلى رفع سقف الدين. وهذا يرينا مدى التقلب في سياسة أمريكا حسب المصالح الخاصة، وحسب النظرة الحزبية.
وفي النهاية يمكن أن يتفق الحزبان رغم الخلافات بينهما على صيغة معينة تخدمهما في الانتخابات من خلال تنازلات معينة؛ إما في ملاحقات ترامب القضائية، أو إيجاد حلّ وسط لمسألة رفع الدين، وتخفيض الإنتاج بما يتفق مع مصالحهما، دون اكتراث لما يعانيه الشعب من بطالة وارتفاع أسعار ونقص المشاريع وغير ذلك.
ختاما نقول: إن اقتصاد أمريكا لن ينقذه أحدٌ في ظل هذه السياسات والعنجهية، وكثرة الإنفاق على العملاء والقواعد العسكرية، وسباق التسلح وغير ذلك. وسيبقى اتكاء أمريكا على الخارج، وتسلطها على العالم، وسلب أمواله حتى يأذن الله بفرجه، إما بانهيار أمريكي مدوٍّ من الداخل، أو بقيام نظام عالمي جديد يتحدى أمريكا تحدياً فاعلاً ومؤثراً، ولا يحسب لها حساباً، ويستند إلى اقتصاد قوي يهز هيبة أمريكا ودولارها، ويتصدى لسياساتها الخارجية، وهذا الأمر لا يقوم به إلا دولة واحدة هي دولة الخلافة. فنسأله تعالى أن يعجل لنا بها.
رأيك في الموضوع