تمخضت الانتخابات النيابية التي جرت في لبنان في 15 أيار 2022 عن مشهدٍ جديدٍ، ولكنه ليس جديداً بالمطلق، فهو جديدٌ في توزيع المقاعد حيث حصد حزب إيران وحلفاؤه 63 مقعداً، وحصد السياديون - كما يطلقون على أنفسهم - 65 مقعداً، وليس جديداً بالمطلق حيث نجحت السلطة، ومن ورائها أمريكا، في إعادة تدوير نفسها، والعودة إلى المجلس النيابي والسلطة بشكلٍ (شرعي)، مع إشراك وجوهٍ جديدةٍ من التغييرين (13 مقعداً)، والذين هم نتاج حَراك تشرين 2019، وهو ما كان قاله حزب التحرير في ولاية لبنان في نشرته الصادرة في 13/5/2022: "... وتعمل - أي أمريكا - في الوقت ذاته على إعادة ترتيب الأوراق في المنطقة، ومن ضمنها لبنان، لتعيد تدوير رجالاتها من أرباب الطبقة السياسية الفاسدة القديمة، مع تطعيمهم بوجوهٍ جديدةٍ..."، وهو ما كان، سواء بعملية انتخابية تقليدية، أو بتلاعباتٍ حصلت في الساعات الأخيرة وفي عمليات الفرز، ما دفع حتى السفارة البريطانية إلى إصدار بيانٍ قالت فيه: "غير أن المملكة المتحدة تشارك المخاوف التي أثارتها بعثة الاتحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات لناحية شراء الأصوات والمحسوبية التي طغت على الانتخابات"، وحتى من التيار الموالي لحزب إيران، قال رئيس تيار المردة سليمان فرنجية: "من يقول إن الانتخابات مرت من دون شوائب هو على خطأ...".
إنَّ القراءة الأولية للمشهد تظهر أنَّ أمريكا أدارت الأمر على أكثر من جبهة:
- إرباك وضع المسلمين "السنة" بعملها على إخراج سعد الحريري، والحريرية السياسية المتمثلة بتيار المستقبل من المشهد السياسي، حيث إنها لم تعد مطمئنة لعمل الحريري معها، بعد أن حاول الاستمرار بوضع رِجلٍ عند أمريكا عن طريق حكام آل سعود، ووضع رجل عند أوروبا عن طريق فرنسا، فأوعزت إلى حكام آل سعود بقطع العلاقة معه، بدءاً بإضعافه مالياً، ثم إضعافه سياسياً؛ وقد جعلت الأوساط "السنية" مثل المفتي ونادي مجلس الوزراء يوهمون سعد الحريري أنهم معه في المقاطعة وتعليق عمله السياسي، وهم ذاتهم، وفي اللحظات الأخيرة، الذين قاموا بمطالبة الناس بالانتخاب بكثافة بذريعة الحفاظ على مكتسبات ووضع "السنة" في لبنان! فكان جُلُّ ما حصلوا عليه اليوم أنهم أكسبوا المجلس ما يسمى بالميثاقية وبالغطاء "السني" المطلوب طائفياً لتمرير ما تريده أمريكا ورجالاتها في لبنان.
- تأكدها من أنَّ المرتبطين بها مباشرةً أو عبر إيران، أي الثنائي "الشيعي" المتمثل بحركة أمل وحزب إيران في لبنان أمنوا حاضنتهم بحيث تأتي بهم بشكلٍ كاملٍ دون أي خرق يذكر، عِلاوة على سكوتها على إعادة ترتيب وضع التيار الحر، عن طريق موالين لحزب إيران في عكار وغيرها، ورفع عدد نواب التيار إلى 17 نائباً بعد أن كاد يقف عند 13 نائباً أو أقل، فيكون حزب إيران قد أعاد تغطية نفسه بغطاء نصراني، ولو بقيت أرجله مكشوفةً، بسبب تقلص عدد نواب التيار بمقدار 6 نواب عن دورة 2018 عندما حصل على أغلبية نصرانية (23 نائباً).
- أحاطت أمريكا عن طريق السعودية بسمير جعجع، فجعل السفير وليد البخاري، بعد عودته إلى لبنان في توقيت قريب من الانتخابات، جعل قبلته معراب وساكنها جعجع! وبتقديرنا أنَّ أمريكا أدركت إمكانية حصول جعجع ومِنْ خلفه أوروبا على حصة وازنة، فكان لا بد من محاولة اختراقه أو الإحاطة به، ولا شك أنَّ جعجع كذلك عارفٌ باليد الطولى لأمريكا في لبنان، وأنه لن يستطيع أن ينجز ما يريده من محاولة التغلغل في الدولة وإداراتها دون مسايرة أمريكا، وخاصةً بعد مشاهدة إخفاق كل المحاولات الفرنسية للاختراق في لبنان حتى بشخص رئيسها ماكرون؛ لذلك ظهر أنَّ هناك تناغماً بين أمريكا والسعودية من طرف، وجعجع من طرفٍ آخر. ولا شك أنَّ حادثة الطيونة وما أعقبها من الصفقة بين بكركي ونبيه بري وجعجع هو أمرٌ لا بد من مراقبته وتتبعه في الأيام القادمة لنرى هل ينعكس على رئاسة الجمهورية أو غيرها.
وهنا نُذكّر بما قاله حزب التحرير في جواب سؤال في 4/12/2019 بخصوص تصرف أمريكا مع أوروبا في لبنان فبعد أن قال: "... معروف أن لبنان تصول وتجول فيه أتباع لأمريكا ولأوروبا..." قال: "على كل، المتوقع أن تغير أمريكا موازين الحكم في لبنان، فيكون الوزن لأتباع أمريكا وتشرك معهم أتباع أوروبا ولكن بقدر... ثم إشراك الشارع لتهدئته...". ونظن أنَّ هذا ما حصل، فبرغم حصول هذا الطرف على نصف المجلس تقريباً (65 نائباً)، إلا أن هذا الطرف هو غير متجانس بالكامل، بل هو خليطٌ من قوى تقليدية ووجوهٍ جديدةٍ، وليس لها تكتل يجمعها حتى الساعة، ونظن أنَّ العمل بينهم سيكون على القطعة كما يقولون وليس بالجملة، على العكس من الطرف الآخر، أي حزب إيران وحلفاؤه، الذي يظهر أنه الأكثر تماسكاً بمكوناته.
- بذلك تكون أمريكا قد حافظت على طبقتها السياسية الفاسدة، وأعطتها شرعيةً جديدةً لمدة 4 سنوات أخرى، هذا من جانب، وأسكتت الشارع الداعي إلى التغيير من جانب ثانٍ بأن فتحت له الباب للدخول في المجلس، ومن جانبٍ ثالثٍ جعلت الطرف الآخر الموالي لأوروبا في واجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعصف بالبلد، فلم تعد مسؤولية حل الأزمة الاقتصادية الخانقة على رأس رجالات أمريكا فقط، بل أشركت معهم كل صوت ارتفع في لبنان، من الثوار، وممن يسمون أنفسهم بالسياديين.
- هذه الأزمة التي تريد أمريكا حلها عن طريق صندوق النقد والبنك الدوليين بشكل أساسي، ما يُكسبها هيمنة اقتصادية أكبر على الموارد الناشئة في لبنان من غاز ونفط، عِلاوةً على الهيمنة السياسية، ما يجعلها مسيطرةً ومتحكمةً بموارد الغاز، لا سيما باتجاه أوروبا، التي تحاول الانفكاك من هذا الرابط بين الغاز وسيطرة أمريكا على خطوط إمداده.
- بعد تشكيل المجلس بهذا الشكل، تكون أمريكا قد جعلت السير في هذا المسار الذي يقود لبنان في ظلمات الصندوق والبنك الدوليين، لا تقع تبعته على عملائها فقط، لذلك ترى طائفةً كبيرةً من وجوه أمريكا البارزة تجنبت اللعبة النيابية، ولا شك أن هذا ليس من عند أنفسهم؛ وعليه ستقع التبعة على أوروبا ورجالاتها كذلك، بشكل لا يستطيع أحد طرفي الصراع في المجلس أن يلوم خصمه.
- إنَّ البلد مقبلٌ على أمور صعبة لناحية الأزمات الاقتصادية، بسبب تعقد المشهد وانقسام السلطة، فإكمال خطة التعافي مع الصندوق الدولي تعني بالضرورة رفع موازنة حكومية على سعر صرفٍ موحدٍ للدولار مقابل الليرة، ما يعني رفع الدولار الجمركي، وفواتير الاتصالات، وفواتير التسعيرات الحكومية الذي يؤدي بدوره إلى المزيد من الضغط على حياة الناس ومعيشتهم اليومية، وتوقيع الأطراف على السير في خطة الصندوق يعني كذلك المزيد من استمرار الحالة الصعبة التي يعيشها الناس اليوم. لقد استطاعت أمريكا وضع الجميع وبالذات رجالات أوروبا على مقصلة الأزمة الاقتصادية المتجذرة في لبنان. لذلك فلا تغيير جذري تريد أمريكا إحداثه في لبنان، بل هي سائرةٌ في خطتها في الهيمنة الاقتصادية المباشرة عِلاوةً على الهيمنة السياسية.
رأيك في الموضوع