ذكرنا في الحلقة السابقة بعض الأعمال التي تقوم بها أمريكا؛ لتكريس سياسة الهيمنة الدولية بشكل موجز. ولن نطيل الشرح فيها؛ لأن كل نقطة منها تحتاج إلى موضوع مستقلّ، ولكن نقف عند موضوع بناء التحالفات السياسية والاقتصادية، وفي الوقت نفسه محاربة أخرى لم ترقْ لأمريكا؛ وذلك ضمن سياسة إبقاء الهيمنة الدولية والاحتواء. وسنضرب ما يجري في أوكرانيا هذه الأيام كمثال حيّ على موضوع هذه التحالفات الدولية من أجل الهيمنة السياسية الغربية.
مما لا شك فيه أن الدول المؤثرة في العالم، والتي تطمح أن يكون لها موطئ قدم أو شراكة، أو تأثير في الموقف الدولي بجانب أمريكا هي الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين. وقد بدأت هذه الدول بالفعل تتحرك في هذا الاتجاه؛ بأساليب متعددة ومتجددة؛ ومنها ما يحصل اليوم في أوكرانيا، وإن كان ظاهره أنه صراع على حدود، أو امتداد تاريخي أو عرقي أو اقتصادي في هذه المنطقة.
أما بالنسبة للاتحاد الأوروبي؛ ففي الفترة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي مباشرة 1991م؛ بدأ التفكير في تعزيز ما بدأه سابقا نحو الوحدة الاقتصادية والسياسية، حيث تعزّز هذا الدافع عند أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة بعد ظهور التحالفات الجديدة، ووقوع أوروبا بأكملها تحت حماية ووصاية أمريكا؛ عسكريا في منظومة حلف الأطلسي؛ لمنع التوسع الروسي نحو أوروبا، ووقوعها أيضا اقتصاديا تحت رحمتها؛ خاصة مشروع مارشال الكبير 1947م - نسبة إلى وزير خارجية أمريكا آنذاك - في إنعاش أوروبا اقتصاديا.
لقد بدأت أوروبا خطوات سياسية واقتصادية كثيرة نحو الوحدة منذ سنة 1951م؛ عندما تشكلت المجموعة الاقتصادية الأوروبية. وكانت هذه الخطوات تتعثر تارة، وتنجح تارة أخرى حتى توجت هذه الأعمال والتوجهات بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، وذهاب خطر حلف وارسو؛ فرسمت هيكلية هذا الاتحاد سنة 1992 في معاهدة ماسترخت، وصارت تنضم لهذا الاتحاد دول جديدة من أوروبا الشرقية والغربية؛ حتى أصبحت 27 دولة بعد خروج بريطانيا رسميا منه 2020م.
وأما الاتحاد الروسي فإنه استعاض عن إرثه الكبير (الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو) ببعض الاتفاقات الاستراتيجية والدفاعية المشتركة منها: منظمة معاهدة الأمن الجماعي سنة 2002 بعد حرب أمريكا على أفغانستان؛ وهذه المعاهدة هي مع بعض دول منظومة الاتحاد السوفيتي السابق وهي بيلاروسيا وأرمينيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان، ومنها كذلك الاتفاقات مع جارتها الجديدة أوكرانيا حيث تعتبر ثاني دولة استراتيجية بعد الاتحاد الروسي في المنظومة القديمة؛ وقد وقعت معها روسيا اتفاقية رابطة الدول المستقلة: روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا سنة 1991م، ثم وقعت معها اتفاقية ثانية؛ نتيجة تدخلات من بعض الدول الغربية في أوكرانيا سميت معاهدة بودابست 1994م؛ تتنازل بموجبها أوكرانيا عن الإرث العسكري النووي السابق، وفي سنة 1997 وقّعت مع روسيا اتفاقية تعاون وصداقة، ثم سنة 2003م، وقعت أوكرانيا اتفاقية لإنشاء منطقة اقتصادية مشتركة مع كل من روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان. لقد تقلب على حكم أوكرانيا خلال الفترة الممتدة من سنة 2004 إلى 2010 رؤساء عدة بين موال لروسيا أو للغرب. وجاء سنة 2010 الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، وأدار ظهره لاتفاقات الغرب سنة 2013 عندما وقع اتفاقات اقتصادية مع روسيا. وعلى إثر ذلك قامت حركة احتجاج قوية في أوكرانيا؛ انتهت برحيله إلى روسيا سنة 2014؛ فكانت ردة فعل روسيا بأن ضمت جزيرة القرم وهي جزء من أوكرانيا (دونباس - المنطقة الصناعية شرق أوكرانيا). ثم وقعت روسيا وأوكرانيا معاهدة مينسك لحل الخلاف القائم بين أوكرانيا وهذه المنطقة. وظلت الاتفاقية حبرا على ورق لم تنفذ منذ ذلك التاريخ، حتى حصلت الأزمة الحالية.
والحقيقة أن تدخلات الغرب في أوكرانيا وعلى رأسهم أمريكا ليس الهدف منها خدمة أوكرانيا ولا شعبها؛ إنما الهدف هو إيجاد المشاكل أولا لروسيا، تماماً كما تصنع مع الاتحاد الأوروبي. والأمر الثاني: هو إبقاء خطوط الغاز المارة من أوكرانيا تحت رحمة الغرب وتحكماته. والأمر الثالث: هو عدم تمكين روسيا من إقامة شراكات اقتصادية أو سياسية تقوّي نفوذها ضد الغرب؛ لأن مثل هذه الشراكات تقوي روسيا وتجعلها تبتعد عن ضغوطات الغرب وقيوده. من أجل هذه الأسباب وغيرها رأت روسيا من هذه القضية قضية أمن قومي لها، وعملت بكل طاقتها لمنع الغرب من إدخال أوكرانيا ضمن حلف الأطلسي لجعلها في عداوة روسيا بدل صداقتها، ووقوفها إلى جانبها. والأزمة الحاصلة قد عرضت روسيا حلها ضمن تفاهمات سياسية، وضمانات كما سمتها: تمنع أي تدخل غربي مستقبلا في أوكرانيا لا عن طريق الضم للأطلسي ولا للاتحاد الأوروبي، ولا عن طريق الانقلابات السياسية، ولا عن طريق تهديد خطوط الغاز، ولا غير ذلك مما يخطط له الغرب. والحاصل أن سياسات أمريكا تشد الحبل من جانب، وروسيا والصين تشده من الجانب الآخر. وهذه القضية ليست من القضايا السهلة سياسيا؛ خاصة وأن روسيا تحاول فرض شروطها الآن عن طريق القوة العسكرية بعد فشل الدبلوماسية والمحادثات، وفعلا بدأت ببسط نفوذها العسكري في أوكرانيا للحفاظ على ذاتها من الغرب ولمنع التمدد الأطلسي في عقر ديارها، ولن تقبل التخلي عن هذا الأمر إلا ضمن تفاهمات سياسية جديدة تضمن لها عدم تهديدها مستقبلا.
وأما بالنسبة للصين فإنها بدأت أيضا بعض المشاريع السياسية والاقتصادية في تعزيز مكانتها في وجه الوحش الأمريكي؛ كان أبرزها النمو الاقتصادي المنافس لأمريكا؛ حيث تضاعف اقتصادها مرات عدة إضافة إلى اختراقها لمجالات حيوية في الاقتصاد تتعلق بعالم الإلكترونيات والإنترنت وغيرها. وقامت أيضا بإقامة علاقات مع دول الجوار؛ منها استراتيجي ومنها اقتصادي للتقوّي أمام الهجمة الأمريكية المسعورة. وأبرز هذه العلاقات ما جرى بينها وبين روسيا سنة 2001 من تجديد معاهدة الشراكة الاستراتيجية لعشرين عاما مقبلة؛ وكان من أبرز الأمور في هذه المعاهدة الجديدة القديمة: معارضة الخطط الأمريكية بالتوسّع العسكري، والتي لا يمكنها إلا أن تضر بمصالح الأمن العالمي، ومنها: تدعيم التعاون العسكري بين الطرفين وفي مجال الدفاع المشترك: ففي حال وجود تهديد أو عدوان، فإنه يتعاون الطرفان لإزالة هذا التهديد أو العدوان. وفيما يخص السيادة الوطنية فإن الصين تدعم سيادة روسيا على كل أراضيها وتدعم روسيا كذلك الصين في سيادتها على كل أراضيها ومنها تايوان، ثم تجددت هذه الشراكة في هذا العام 2022 في دورة الألعاب الأولمبية الجارية؛ بين الرئيسين بوتين وشي جين بينغ؛ أي في ظل الأزمة الحالية في أوكرانيا.
ولعل أبرز الأمور - وهو موضوع حديثنا - في هذه السياسات ضد هجمة أمريكا وسطوتها؛ هو التقارب الروسي الصيني. فإلى أي حد يمكن لهذا التحالف والتعاون أن يقف في وجه سطوة أمريكا، وما هي مظاهر هذا التعاون، وما هي علاقة الحرب الدائرة اليوم في أطراف روسيا على هذا التعاون والحلف الاستراتيجي كما سمته قمة بوتين - شي جين بينغ الأخيرة في الألعاب الأولمبية في الصين؛ وما مدى نجاحه على المدى المنظور، وهل ستضحي الصين بكثير من العلاقات الاقتصادية مع الغرب (الاتحاد الأوروبي - أمريكا) لتساند حليفتها الاستراتيجية؟!
يتبع...
رأيك في الموضوع