انطلقت الثورة في تونس أواخر العام 2010، ثم ما لبثت أن كسرت الحواجز وتخطت الحدود فمرت بليبيا ومصر واليمن حتى وصلت إلى سوريا، ثم جاءت موجة أخرى من الثورات ألهمت شعوب العراق والجزائر والسودان للتحرك ضد الحكام العملاء في المنطقة.
لم تكن ثورات الشعوب بذلك ثورات قطرية ووطنية تؤمن بالحدود وتقدسها، بل هي نقيض ذلك تماما، حيث جاءت التحركات الجماهيرية الشعبية لتتخطى الحدود، وتقفز فوق منظومة سايكس بيكو وتنادي بالوحدة وبتحرير فلسطين، وقد فاجأت الحشود البشرية التي خرجت في الشوارع كل المتابعين الدوليين.
لقد كانت ثورة أمة ضد الاستعمار، وأنظمة الاستعمار، وحكام بل خدام الاستعمار، وكل منتجات الاستعمار الفكرية والحضارية. وقد دفعت الشعوب في سبيل إيصال أفكارها ومشاعرها الإسلامية ثمن ذلك أرواح أبنائها الأبرياء الذين سقطوا بفعل مجابهة الأنظمة القمعية لتحركات متصاعدة رأوا فيها تهديدا مباشرا لعروشهم وعروش أسيادهم في بلاد الغرب، وهو ما استوجب دعما غربيا مباشرا وغير مباشر من أجل كبح جماح الأمة ومنع تفلتها من قبضة النظام الرأسمالي العالمي.
بات واضحا أنها معركة تحرر للأمة من قبضة الاستعمار الذي قيّدها بأغلال الأنظمة الجائرة وأبعد عنها المشروع الإسلامي كبديل حضاري يمكن أن ينهض بها ويخلصها من أنظمة الملك الجبري، فتعيد الأمة سيرتها الأولى خير أمة أخرجت للناس.
كان تعامل الغرب مع هذه الثورات حاسما وحازما في ضرورة إقصاء الإسلام من الحكم واستبعاده من التشريع عبر إنشاء دساتير وضعية جديدة، وقد أجمعت كل قوى الاستعمار الدولي على محاربة الإسلام ومشروعه الحضاري مع اختلاف بينهم في الأساليب، حيث كانت أمريكا تعتمد أساليب القمع والحرب المعلنة على غرار ما حصل في كل من مصر وسوريا.
على عكس بريطانيا التي اعتمدت أساليب الحرب الخفية ومغالطة الناس في وعيهم عبر استعمال القوى الناعمة والمراهنة على ورقة الإسلام المعتدل، وهو ما حصل في تونس بعد الثورة.
اختلفت الأساليب، ولكنّ الغاية واحدة، لأن ملّة الكفر واحدة، قال تعالى: ﴿وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ [إبراهيم: 46].
هذا الغرب الاستعماري ذو التاريخ الحافل بالجرائم والإبادات الجماعية والحروب العالمية وقنابل هيروشيما وناجازاكي وسجون وأقبية التعذيب التي نسجت الأنظمة على منوالها، هذا الغرب الاستعماري الذي تتزعمه رأس الكفر أمريكا التي نشرت الديمقراطية بالدبابات في العراق وأفغانستان وغيرها، هذا الغرب الصليبي الحاقد الذي أوصل أمثال ترامب وماكرون وساركوزي إلى الحكم بمباركة من اللوبيات الصهيونية، هذا الغرب الذي يصنع الإرهاب ويصدّره إلى دول العالم ثم يعتبر أن الإسلام يعيش في أزمة كما جاء على لسان المأزوم ماكرون الذي نسي تصريح وزير خارجتيه ذات يوم، حين قال حرفيا بأن "فرنسا تدعم الإرهاب المعتدل في سوريا".
هذا الغرب الكافر المستعمر، الحاقد على الإسلام وأهله، جاء بعد الثورات ليعلمنا ديننا، ويخبرنا عبر وكلائه الجدد بأن الإسلام والديمقراطية توأمان لا ينفصمان، ألا ساء ما يحكمون! نعم هكذا، يساوون بين الإسلام العظيم والديمقراطية العرجاء، ثم يقولون لنا بعدها: ما دام الإسلام والديمقراطية سواء، فإليكم الديمقراطية ودعكم من الإسلام ومن مزجه بالسياسة!
وهكذا، فإن لسان حال الغرب يقول: اكفروا بالإسلام وآمنوا بالديمقراطية، قال تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾. أما حكامنا فلسان حالهم ومقالهم يقول: نحكمكم بالديمقراطية أو نقتلكم!
هذا الغرب الصليبي الذي يرفع ورقة التعايش بين الحضارات لتجنب الصراع الفكري مع الإسلام بعد أن انهزمت حضارته في عقر دارها، لا يطلب منا سوى التخلي عن الكتاب والسنة في الحكم والتشريع ليواصل بنفسه نقض بقية عرى الإسلام عبر الغزو الفكري والثقافي الذي تقوده أوكار الدعاة الإعلامية في بلادنا.
هذا الغرب، نجده يقطع شوطا جديدا تزامنا مع انتشار وباء كورونا للتآمر على الإسلام والمسلمين، وها قد رأينا كيف تم توظيف هذا الوباء توظيفا سياسيا رخيصا لاستهداف بيوت الله بالغلق ومنع صلوات الجماعة والجُمع وتفعيل قوانين الطوارئ وحظر التجول لغرض الحجر السياسي على كل التحركات الشعبية ولو في مستواها الأدنى المطالِب بتوفير لقمة العيش الكريم.
وبدل الاستجابة لمطالب الناس الذين أرهقت كاهلهم شروط وإملاءات صندوق النقد الدولي ومنع الاستعمار من خطف تونس، نجد رئيس تونس يواصل في سياسة الهروب إلى الأمام، عبر تبرير عجزه وتعليق فشله على كورونا وعلى الحرب الروسية على أوكرانيا وارتداداتها الدولية، وكأنه كان على موعد مع نقلة نوعية ونهضة صناعية واقتصادية إذا لم تتجرأ روسيا على أوكرانيا!
إنه لا سبيل لإيصال هذه الثورات إلى بر الأمان وتتويج حراك الأمة الثائرة بالنصر في خضم هذه الأمواج المتلاطمة وفي ظل المؤامرة الكونية على أمة الإسلام، إلا بثلاثة أمور:
أولا: بجعل الإسلام أساسا لكل عمل، وفي مقدمة ذلك العمل السياسي الذي يعيد سلطان الإسلام المغتصب.
ثانيا: بنبذ كل من جعل الإسلام وراء ظهره وارتمى في أحضان الغرب فباع ذمته وتنكر لدينه وأمته. وهو ما ينطبق على كل الأوساط السياسية الرسمية التي أنشئت على أعين الكافر المستعمر وترعرعت بين أحضانه.
ثالثا: بتقديم حزب التحرير وتسليمه القيادة، ليصل بثورة الأمة إلى بر الأمان.
أما طريق ذلك، فهو أن يتقدم أهل القوة والمنعة للقيام بدورهم في نصرة المشروع الحضاري للأمة، وألا يتخلوا عن أداء واجبهم المنوط بهم، لتتحقق مطالب الأمة في استرجاع السيادة وتحرير البلاد والعباد من قبضة الاستعمار، وفي مقدمة ذلك قضية الأمة في فلسطين. قال تعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ [الأنفال: 72].
ختاما، فإن كل متغيرات السياسة الدولية تؤكد أن البديل للبشرية هو بديل عالمي وأن جميع البدائل القطرية إلى زوال. وعليه فإنه لا يوجد بديل حضاري قادر على انتشال البشرية من جحيم الرأسمالية غير الإسلام، حين يتجسد في دولة، هي دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، عسى أن يكون قيامها قريبا بإذن الله.
رأيك في الموضوع