يجري التطبيع في هذه الأيام بين الدول العربية وكيان يهود بخطوات سريعة وقفزات واسعة بلغت من الخيانة والوقاحة ما لم يكن يخطر على بال أي حاكم خائن من قبل، فهذا محمد بن سلمان يقول لوكالة الأنباء السعودية الرسمية: "إننا لا ننظر إلى (إسرائيل) كعدو، بل ننظر إليها كحليف محتمل في العديد من المصالح التي يمكن أن نسعى لتحقيقها"، وهذا وزير خارجيته يقول: "إنّ اندماج (إسرائيل) في المنطقة سيكون مفيداً"، وأمّا وزير خارجية البحرين عبد الله بن خليفة فقد بلغت به السفاهة أن يقول: "الموساد موجود في البحرين وحاضر في المنطقة لتوفير مزيد من الأمن والاستقرار والحفاظ على أرواح المدنيين الأبرياء"، ويقول الرئيس السوداني بإسفاف يصل حد التندر بأنّ: "العلاقات الأمنية مع كيان يهود قد ساهمت في كشف مجموعات إرهابية"، وأمّا تركيا التي نددت في البداية باتفاقيات التطبيع بين الدول العربية وكيان يهود فإنّها اليوم عادت وطبعت علاقاتها مع المطبعين ومع كيان يهود فزار رئيسها أردوغان الإمارات (أمّ المُطبّعين) لقاء دفع الإمارات لتركيا عشرة مليارات دولار، وقال بعد عودته بأنّ "المحادثات كانت مثمرة للغاية بين تركيا والإمارات، وأنها فتحت آفاقا جديدة وبزخمٍ قوي، وأننا مُصممون على مواصلة الجهود من أجل مصالحنا المشتركة"، فكلام الليل عند أردوغان يمسحه النهار.
وقامت الحكومة التركية بتحضيرات محمومة لاستقبال رئيس كيان يهود إسحاق هيرتسوغ، الذي زار تركيا مطلع هذا الشهر آذار/مارس ومن هذه التحضيرات:
1- إرسال إبراهيم كالين كبير مستشاري أردوغان وسادات أونال مساعد وزير الخارجية التركي لمدة يومين لكيان يهود تمهيداً للزيارة.
2- ضبط خلية إيرانية في تركيا كانت تستهدف مصالح وشخصيات لكيان يهود ومن بينها اغتيال رجل أعمال رداً على اغتيال العالم النووي الإيراني فخري زاده.
3- تعاون الموساد مع السلطات التركية في إحباط 12 مخططا لشن هجمات ضد مصالح كيان يهود في تركيا.
4- تعزيز العلاقات الأمنية والاقتصادية بين الدولتين.
5- بلغت تركيا قادة حركة حماس بطرد عناصر الجناح المسلح للحركة من أراضيها بعد طلب قدمه لها كيان يهود.
6- أعلنت تركيا بأنها لن تقدم أية مساعدات عسكرية لحماس.
7- أرسلت تركيا وفداً دبلوماسياً إلى الأراضي الفلسطينية مهمته بحث إمكانية إعادة بناء جسور الثقة بين محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية ونفتالي بينت رئيس حكومة كيان يهود.
وبعد كل هذه الخطوات التركية التطبيعية المفضوحة يطلع علينا مولود جاويش أوغلو وزير خارجيتها زاعماً بأنّ: "تطبيع العلاقات التركية مع (إسرائيل) لن تكون على حساب الفلسطينيين، وأنّه قد يساهم في تعزيز دور تركيا في التوصل لحل الدولتين"!
والحقيقة أنّ هذا التقارب بين الدولتين سببه إدارة بايدن التي أسقطت اتفاقية الطاقة والغاز بين كيان يهود واليونان وقبرص المعروفة باسم (إيست ميد) والتي تمّ توقيعها أيام ترامب لمصالح شخصية، وألغاها بايدن بجرة قلم ووصفها بأنّها غير ذات جدوى.
وهدف أمريكا من إسقاط تلك الاتفاقية إدخال تركيا في نظرتها المستقبلية البديلة عنها، لذلك نجد أنّ كل هذه الأعمال التطبيعية بين الدولتين الهدف منها تعزيز العلاقات بينهما من أجل التوصل إلى اتفاقيات غاز جديدة لشرق المتوسط تكون تركيا مُشاركة فيها.
فهذا التطبيع السرطاني مع كيان يهود الذي تقوم به تركيا والدول الخليجية والمغرب والسودان في الواقع لا يزيد الأمة الإسلامية إلا ضعفاً، بل هو يُمزّق شملها، ويقتطع من أراضيها، ويقوي شوكة دولة يهود فيها، ويجعلها - وهي الجسم الغريب المنبوذ في المنطقة - جزءاً طبيعياً مقبولاً وقوياً بين ظهرانيها، بالإضافة إلى كونه يُضاعف المصالح الأمريكية والأوروبية في بلاد المسلمين، ويزيد من نفوذ الكفار بكل أشكاله الأمنية والاقتصادية والدبلوماسية فيها.
وما كان هذا التطبيع السرطاني ليحدث لولا إبرام اتفاقيات (السلام الخيانية) التي جعلت الدول الموقعة عليها تعترف بكيان يهود، وبحقه بالوجود في فلسطين قلب المنطقة العربية والإسلامية.
فالاعتراف بكيان يهود والصلح معه هو أصل الداء وأس البلاء، ولولاه لما وجد التطبيع ولا المطبعون، فالتطبيع كحالة هو بالفعل نتاج طبيعي لتلك الاتفاقيات الخيانية.
وعلى الشعوب رفض اتفاقيات الصلح مع كيان يهود وليس فقط رفض التطبيع معه، لأنّ اتفاقيات الصلح هي الأصل الفاسد الذي انبنت عليه أعمال التطبيع السرطانية، وإذا أردنا استئصال تلك الأعمال فعلينا أن نستأصل أصلها أولاً.
ومن هنا كان لا فرق في النظر بين من طبّع وبين من اعترف فكلاهما خيانة، فالعرب في مؤتمر الخرطوم الذي انعقد عام 1967 سايروا شعوبهم نفاقاً وكذباً، ورفعوا الشعارات الثلاثة بوصفها ثوابت سياسية حقيقية في التعامل مع المغتصب، وهي اللاءات الثلاث المشهورة: لا للصلح لا للاعتراف لا للمفاوضات، ثمّ بعد امتصاص غضب الشعوب إثر هزيمة 1967 انقلبوا على هذه الثوابت، وتفاوضوا مع قادة دولة يهود، ووقعوا معها اتفاقيات صلح واعتراف خيانية أنتجت فيما بعد ما نراه من علاقات التطبيع المقيت.
لذلك فعلى الواعين سياسياً أن يُبينوا للناس أنّ جريمة التطبيع ما هي إلا نتاج طبيعي لاتفاقيات الصلح الخيانية، فلا يقبل من أحد رفضه للتطبيع وقبوله بالاعتراف بحجة أنّه قرار دولي، ولا يُقبل تبرير أي مُسوّغ لقبول الاعتراف بحجة رفض التطبيع، فلا فصل بين الاعتراف والتطبيع فكلاهما جريمة، فالرفض يكون للأصل والفرع وليس للفرع دون الأصل.
رأيك في الموضوع