تحدثنا في الحلقة السابقة عن الحرب على أمة الإسلام، وخاصة المسجد الأقصى المبارك، ومدينة القدس وأكناف القدس؛ في مرحلة الحروب الصليبية. ونصل إلى الزاوية الخامسة من هذا الموضوع وهي: (المؤامرات الغربية والصهيونية على فلسطين بعد الخلافة، وفي عهد الانتداب البريطاني).
والحقيقة أن الحرب لم تتوقف بعد فترة الحروب الصليبية ضد القدس والأقصى، وضد أمة الإسلام بشكل عام، ولكن هذه الحرب قد فشلت فشلا ذريعا؛ رغم بعض المكاسب التي حققها الصليبيون في الفترة التي أعقبت موت صلاح الدين رحمه الله؛ بسبب الخلافات بين الممالك المتفرقة، والسبب في فشل تلك الحروب هو قوة المسلمين، ووجود الخلافة التي كانت تتصدّى وتتحدّى هذه المؤامرات والحروب، وتبطلها واحدة تلو الأخرى، وخاصة في عهد المماليك.
وبداية المؤامرات الشريرة الكافرة بعد الخلافة العثمانية ضد القدس والمقدسات في بيت المقدس، وضد بيت المقدس وأكنافه بشكل عام قد بدأت في الحقيقة في أواخر عهد الخلافة، ولكن كما ذكرنا تحطمت على صخرة صماء، وفشلت فشلا ذريعا!! وهذا أحد الأسباب التي دعت الغرب النصراني، ومعه الصهيونية العالمية للتخطيط لهدم الخلافة للوصول إلى تنفيذ مؤامراتهم ضد بيت المقدس؛ لخدمة الصهيونية العالمية. تماماً كما فكّر الصليبيون من قبل بالقضاء على مصر الكنانة في الحملة الصليبية السابعة من أجل الوصول إلى بيت المقدس ومدينة القدس حسب الخطة التي وضعها لويس التاسع ملك فرنسا، وقائد تلك الحملة؛ لأن مصر الكنانة كانت هي الدرع والواقي لأرض بيت المقدس على مر التاريخ، إلا أن هذه الحملة فشلت فشلا ذريعا، وعادت أدراجها تجرُّ ثوب الهزيمة والخسران بعد أن قُتل معظم من فيها من جنود وقواد، وأسر فيها لويس التاسع ملك فرنسا.
وهذا ما حصل بالفعل في عهد الخلافة العثمانية عبر محاولات متكررة ومتعددة؛ من أجل توطين اليهود في فلسطين، والسيطرة على مدينة القدس، إلا أن الخليفة العثماني عبد الحميد الثاني رحمه الله قد صدّهم وردهم ردّا قويا، وقال لهم في آخر محاولاتهم، عندما بعث زعيم الحركة الصهيونية وفدا يعرض عليه تسديد ديون الدولة، مقابل تمليكهم وطنا في فلسطين: (... انصحوا الدكتور هرتزل، بألاّ يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع؛ فإني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين، فهي ليست ملك يميني، بل ملك الأمة الإسلامية، ولقد جاهد شعبي في سبيل هذه الأرض وروّاها بدمه، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مُزقت دولة الخلافة يوما؛ فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني؛ لأهون عليَّ من أن أرى فلسطين قد بترت من دولة الخلافة، وهذا أمر لا يكون.. إني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة).
من هنا بدأ التفكير الجدّي في هدم الخلافة والقضاء عليها؛ من أجل غايات كثيرة؛ ومنها تمكين يهود من القدس وأكنافها ومن المسجد الأقصى المبارك. ولا نريد أن نفصّل كثيرا في كيفية هدم الخلافة، والأعمال التي قام بها الغرب وحلفاؤه من المسلمين لهدم الخلافة العثمانية؛ لأن هذا يحتاج إلى بحث مستقل بذاته. ولكن نقول: بأن الخلافة قد هدمت، ووصل الصليبيون إلى مبتغاهم وهدفهم؛ الذي رسموه في اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور 1916-1917!
لقد هُدمت الخلافة وأُلغيت نهائيا سنة 1924م، ومُزقت بلاد المسلمين شرّ ممزق. وكانت فلسطين قد وقعت تحت نير الاستعمار، وتحت الانتداب البريطاني قبل هدم الخلافة ببضع سنوات، حيث سيطرت بريطانيا على مصر بشكل رسمي سنة 1914م. ثم تحول الجيش البريطاني بقيادة إدموند اللنبي من مصر إلى القدس سنة 1917، وهُزم الجيش العثماني أمام الجيش البريطاني؛ بسبب تشتته في الدفاع عن مصر في حملتين متعاقبتين، بالتحالف مع الألمان. واحتل الإنجليز مدينة القدس بعد إعلان الاستسلام وذلك بعد 400 عام من الحكم العثماني فيها 1517-1917. ووقف القائد البريطاني إدموند اللنبي في وسط مدينة القدس بعد احتلالها وقال كلمته المشهورة، والتي تعبر عن حقيقة أطماع الغرب الصليبي في القدس، وحقيقة حروبهم في بلاد المسلمين، وعن حقيقة امتداد تلك الأطماع إلى العهد الصليبي الأول، حيث قال: (الآن انتهت الحروب الصليبية). وهذه الكلمة تشبه إلى حد بعيد ما قاله قرينه غورو القائد الفرنسي بعد ذلك عندما دخل دمشق سنة 1920، ووقف عند قبر القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي؛ وقال بتهكم وسخرية؛ تنمُّ عن حقد صليبي: (ها قد عدنا يا صلاح الدين) وضرب القبر بقدمه. يعني عادت الحروب الصليبية، وانتصرنا فيها بعد أن هزمنا من قبل في العصور الوسطى.
لقد باشر الإنجليز بعد احتلال فلسطين تنفيذ المخطط الذي رسموه من قبل، وأقرته الدول الأوروبية النصرانية في عصبة الأمم، في وعد بلفور 1917؛ وتمثلت هذه الأعمال في عهد ما يسمى بالانتداب بالأمور التالية:
1- وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني: وهي مؤامرة غربية قد صاغتها الدول النصرانية الكافرة؛ من أجل تمكين اليهود من بيت المقدس؛ حيث وقعت فلسطين تحت الانتداب سنة 1920، وأقرته عصبة الأمم بقرار رسمي في سنة 1922، وذلك استكمالاً لتنفيذ وعد بلفور الذي تبنته عصبة الأمم سنة 1917، وفي هذا الصك أي الانتداب اتخذ الغرب قرارا بتشجيع هجرة يهود إلى فلسطين؛ من أجل إنشاء وطن قومي لهم. وفعلا هذا ما كان.
2- باشر الإنجليز بالتعاون مع المنظمات الصهيونية تسهيل شراء الأرض في فلسطين لصالح المنظمات الصهيونية، وفي الوقت نفسه سهّلوا عمليات هجرة يهود المنظمة إلى فلسطين من دول أوروبا، ومن بعض بلاد المسلمين، وخلال هذه الفترة التي انتهت بإعلان قيام كيان يهود سنة 1948؛ قام الإنجليز بالتعاون مع المنظمات الصهيونية بالسيطرة على أراض واسعة من فلسطين لصالح اليهود وتوطينهم، كما قاموا بإنشاء ما يسمى بالعصابات اليهودية المسلحة، وفي الوقت نفسه مُنع أهل البلاد الأصليون من التسلح. وهكذا نشطت منظمات وعصابات (الهاجاناه وشتيرن واتسل وأرغون.. والبالماخ.. وغيرها) الصهيونية، وصارت تقتل الناس، وتهجرهم من أرضهم شيئا فشيئا، وتواصل هذا العمل حتى سنة 1948م ومطلع الخمسينات؛ أي بإعلان قيام دولة يهود حسب قرار وعد بلفور.
3- خلال فترة الانتداب وما أعقبها بسنوات قليلة قام اليهود بأعمال وحشية، لا تماثلها إلا أعمال الصليبيين في الحروب الصليبية الأولى على فلسطين؛ حيث عملوا على تهجير أكثر أهل فلسطين من ديارهم وأرضهم، واستولوا عليها لصالح القادمين الجدد من يهود إلى فلسطين، وقاموا بالتزامن مع ذلك بأعمال وحشية من القتل والتنكيل والمذابح الجماعية؛ في أكثر من بلدة وقرية، وهدموا القرى المهجرة، واستولوا على أرضها ومساكنها، وحولوا الكثير من المساجد إلى حظائر للأبقار والخنازير، وقسم آخر حولوه إلى بارات ومتاحف أو مطاعم وملاهٍ ليلية.
يتبع...
رأيك في الموضوع