أمر رئيس أمريكا دونالد ترامب بتعليق المساعدات الخارجية الأمريكية باستثناء تلك المخصصة لكيان يهود ومصر، وهذا ما أكدته مذكرة صادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية. هذا الإجراء يعكس أجندة أعمق تهدف إلى استخدام المساعدات كوسيلة للسيطرة بدلاً من كونها أداة لمعالجة الاحتياجات الإنسانية العالمية.
لطالما مكّنت المساعدات الخارجية أمريكا من التأثير على السياسات العالمية. فقد صور قادة أمريكا برامج مثل "خطة مارشال" و"برنامج النقطة الرابعة" على أنها دعم للتنمية، لكنها في الواقع وسّعت هيمنة أمريكا على الشؤون السياسية والاقتصادية لدول أخرى. وصف عالم السياسة المعروف هانز مورغنثاو المساعدات الخارجية بأنها سلاح يستخدم بالتوازي مع القوة العسكرية والدبلوماسية. لقد شكّلت هذه السياسة أداة رئيسية خلال الحرب الباردة ولا تزال محورية في نفوذ أمريكا حتى اليوم.
استخدام المساعدات للحفاظ على الهيمنة الأمريكية
استخدمت أمريكا المساعدات تاريخياً كأداة لتعزيز نفوذها العالمي. عقب الحرب العالمية الثانية، ضمنت برامج المساعدات الأمريكية نفوذها في أوروبا وأجزاء من الجنوب العالمي. وخلال الحرب الباردة، استهدفت المساعدات منع انتشار الشيوعية من خلال دعم حكومات مؤيدة لأمريكا. وقد جاءت هذه المساعدات غالباً بشروط مصممة لإعادة تشكيل الاقتصادات والهياكل السياسية بما يخدم المصالح الأمريكية. لقد سلط تحليل مورغنثاو الضوء على هذا الواقع، حيث قارن المساعدات بعمليات دبلوماسية وعسكرية. وتضمنت الأمثلة تدخلات أمريكا في أمريكا اللاتينية وأفريقيا، حيث دعمت المساعدات أنظمة استبدادية عنيفة متحالفة مع أهدافها.
نهج ترامب في المساعدات ضمن سياسة "أمريكا أولاً"
أمر ترامب بتعليق المساعدات الخارجية لمدة 90 يوماً مع استثناء كيان يهود ومصر فقط. هذا الإجراء يعكس سياسة "أمريكا أولاً" التي أعطت الأولوية للأهداف الاستراتيجية الأمريكية. دافع وزير خارجية أمريكا ماركو روبيو عن استثناءات إنسانية، لكنه أكد أن الهدف من خفض المساعدات هو مواءمة البرامج مع السياسة الخارجية الأمريكية. يعكس الاستثناء الممنوح لكيان يهود ومصر أهميتهما في دعم الأهداف الأمريكية. وقد عانت المنظمات الإنسانية والعاملون في مجال الإغاثة من تأثير هذه التخفيضات المفاجئة، ما أدى إلى تعطيل البرامج المخصصة لتقديم الخدمات الضرورية.
يُظهر هذا النهج الانتقائي حقيقة السياسة الأمريكية في مجال المساعدات. ورغم تقديمها كأنها إنسانية، فإن هذه المساعدات غالباً ما تركز على الأهداف العسكرية والسياسية. وقد عززت مذكرة روبيو هذا المفهوم من خلال تحديد استثناءات للبرامج التي تعتبر مفيدة للحلفاء الأمريكيين، ما يعكس استمرار التركيز على السيطرة الاستراتيجية بدلاً من تلبية الاحتياجات العاجلة.
أهداف استعمارية خلف المساعدات الأمريكية
غالباً ما تفرض المساعدات الأمريكية شروطاً تقوّض استقلالية الدول المتلقية. وتشمل هذه الشروط إصلاحات هيكلية مثل الخصخصة وإلغاء الضوابط، ما يخدم مصالح الشركات الأمريكية. وتؤدي هذه الإجراءات إلى تآكل الاقتصادات المحلية وخلق تبعية على الدعم المالي والسياسي الأمريكي. ويعد اعتماد مصر الطويل على المساعدات الأمريكية مثالاً بارزاً لهذه الديناميكية، حيث عززت الاتفاقيات المرتبطة باتفاقيات كامب ديفيد اصطفاف مصر مع مصالح أمريكا وكيان يهود.
تواجه الدول الغنية بالموارد الطبيعية سياسات مساعدات تفضّل وصول الشركات الأمريكية إلى تلك الموارد. فبعد زلزال هايتي عام 2010، تدفقت المساعدات بشكل أساسي إلى شركات مقاولات دولية، بينما حصلت التجمعات المحلية على القليل من الدعم الموعود. وعاد جزء كبير من التمويل إلى الشركات الأمريكية من خلال عقود مبالغ فيها، ما أدى إلى تفاقم الفقر وعدم الاستقرار السياسي بدلاً من تعزيز النمو.
المساعدات كأداة للتلاعب السياسي
تستخدم أمريكا المساعدات للتأثير على النتائج السياسية وزعزعة استقرار الدول غير المتوافقة مع مصالحها. تموّل برامج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية مجموعات معارضة تحت ستار تعزيز الديمقراطية. ففي كوبا، دعمت الوكالة عمليات سرية لاختراق الفضاءات الثقافية، بما في ذلك وسائل التواصل الإلكتروني والفنون، بهدف إثارة التمرد ضد الحكومة. ونادراً ما تركز هذه الجهود على التنمية الحقيقية، بل تخدم السياسة الخارجية الأمريكية من خلال تعزيز الانقسامات وتقديم مصالح الشركات الأمريكية، كما حدث في العراق عبر حزم مساعدات موجهة لصالح الشركات الأمريكية على حساب الاحتياجات المحلية.
وأما الدول التي تقاوم النفوذ الأمريكي فإنها تواجه عواقب فورية؛ من تجميد المساعدات، والعقوبات. والعمليات السرية تعرقل الحوكمة وتجبر الدول على الامتثال. ويعكس هذا التكتيك استراتيجية طويلة الأمد تعزز الهيمنة الأمريكية من خلال التلاعب بالسياسة المحلية وإبقاء الدول المتلقية في حالة تبعية دائمة.
التركيز الاستراتيجي على كيان يهود ومصر
يحظى كيان يهود ومصر بدعم أمريكي مستمر بسبب أدوارهما في الاستراتيجية الجيوسياسية الأمريكية. حيث تموّل المساعدات الأمريكية الهيمنة العسكرية لكيان يهود، ما يسمح له بالاستمرار في احتلال فلسطين. وتشمل هذه المساعدات أسلحة متطورة استخدمت في الحرب على غزة وتستخدم الآن في الضفة الغربية. وتضمن هذه السياسة وضع كيان يهود كقوة إقليمية تتماشى مع المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.
كما تساهم المساعدات المقدمة لمصر في تعزيز تعاونها مع المبادرات الأمنية الأمريكية. فمنذ اتفاقيات كامب ديفيد، أصبحت مصر شريكاً أساسياً في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي بشروط مواتية لواشنطن. يظهر دفاع روبيو عن استثناءات المساعدات كيف يعمل كيان يهود ومصر كقاعدة استعمارية تخدم الأهداف الخارجية الأمريكية. ويعكس هذا الواقع الطبيعة الانتقائية للمساعدات الأمريكية، التي تعطي الأولوية للسيطرة السياسية على الأهداف الإنسانية.
يكشف تعليق إدارة ترامب المساعدات الخارجية، مع استثناءات لكيان يهود ومصر، عن الغرض الدائم لبرامج المساعدات الأمريكية. بعيداً عن دعم التنمية العالمية، تعمل هذه المساعدات كوسيلة للسيطرة على السياسات والموارد في الدول الأخرى. وتوضح الأمثلة التاريخية والحديثة أن المساعدات الأمريكية تشكّل المشهد السياسي بما يخدم طموحاتها الاستراتيجية.
وإلى أن يتم الاعتراف بهذا الواقع على نطاق واسع، ستبقى هذه المساعدات أداة للسيطرة الاستعمارية المقنعة بالرحمة.
بقلم: الدكتور ديوان شودري
رأيك في الموضوع