لقد حظيت زيارة رئيس وزراء يهود نتنياهو لأمريكا، ولقاؤه برئيسها ترامب، الثلاثاء 4/2/2025، باهتمام إعلامي وسياسي كبيرين، نظرا لما جاء فيها من تصريحات حول موضوع غزة وتهجير أهلها والتي بدت مفاجئة للكثيرين، حيث قال ترامب في مؤتمر صحفي مشترك مع نتنياهو في البيت الأبيض: "الولايات المتحدة ستتولى السيطرة على قطاع غزة، ونتوقع أن تكون لنا ملكية طويلة الأمد هناك"، وأضاف أن السبب الوحيد الذي يجعل الفلسطينيين يظلون في غزة هو غياب البدائل، معتبراً أن القطاع "يمكن أن يصبح ريفيرا الشرق الأوسط" بعد إعادة تطويره. ثم تحدث عن إمكانية مشاركة الأردن ومصر في خطة التهجير، فقال إن "الملك عبد الله الثاني والرئيس عبد الفتاح السيسي سيوفران الأراضي ليعيش فيها سكان غزة بسلام".
ما أثار موجة من الانتقادات والاعتراضات الدولية والعالمية الرافضة لفكرة احتلال أمريكا لغزة وتهجير أهلها، والداعية إلى إحياء مشروع حل الدولتين، فسارع البيت الأبيض إلى توضيح أن مخطط ترامب لا يعني احتلال أمريكا لغزة، أو إعمارها، فقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، في إحاطة صحفية، الأربعاء: "لم يلتزم الرئيس بإرسال قوات برية على الأرض في غزة ... لن تدفع الولايات المتحدة تكاليف إعادة بناء غزة"، بعد أن كان ترامب في تصريحاته، الثلاثاء، لم يستبعد إرسال قوات أمريكية للمساعدة في تأمين غزة، وقال: "سنفعل ما هو ضروري. إذا لزم الأمر، فسنفعل ذلك".
بل خرج وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، يوم الأربعاء 5/2/2025، يخفف من حدة موقف ترامب ويبرر له، فقال إن العرض الذي كشف عنه ترامب بشأن قطاع غزة ليس المقصود منه أن يكون خطوة عدائية، وأن عرضه تمثل في التدخل وإزالة الحطام من القطاع وتنظيف المكان من الدمار، موضحاً أن "الشعب سيضطر إلى العيش في مكان ما أثناء إعادة إعمار غزة". ثم قال ترامب نفسه، الخميس، إن كيان يهود سيسلم قطاع غزة لأمريكا بعد انتهاء القتال.
ويوم الجمعة 7/2/2025 قال ترامب خلال لقائه رئيس الوزراء الياباني في البيت الأبيض: "في الأساس، ستتعامل الولايات المتحدة مع الأمر كاستثمار عقاري، فغزة بالنسبة لنا هي صفقة عقارية، حيث سنكون مستثمرين في تلك المنطقة، ولن نتعجل في اتخاذ أي خطوة".
وهكذا خلال أيام بل ساعات تبدلت التصريحات وتغيرت من قبل إدارة ترامب وترامب نفسه، ما دفع الكثيرين إلى قراءته على أنه تخبط في القرارات أو اتباع لسياسة إغراق الإعلام والشعوب بالأخبار والمواقف الصاخبة للتغطية على ما يفعله في الداخل الأمريكي من تغييرات وإقصاءات كبيرة.
ولكن مسألة الإلهاء أو الإغراق هي مجرد فرضية يجري الحديث عنها دون وجود حقائق تعززها، فالمجتمع في أمريكا مجتمع يحكمه الدستور والقانون والمؤسسات والقضاء، فترامب لا يستطيع أن يتجاوز الدستور أو القضاء مثلا، ولطالما تمكن القضاء من تعطيل أو إلغاء قرارات لرؤساء أمريكيين ومنهم ترامب نفسه وحدث ذلك خلال الأيام الفائتة، وكذلك مجلسا الشيوخ والنواب والبنتاغون والمؤسسات الرقابية ليست عبارة عن مؤسسات وهيئات ناشئة غضة حتى يتمكن ترامب من إلهائها أو التعمية عليها بالبساطة التي يتحدث عنها أصحاب الفرضية.
أما موضوع التخبط، فصحيح أن تردد الإنسان في قراراته والنكوص عن بعضها يمكن وصفه بالتخبط، ولكن ذلك إذا لم يكن مخططا له من قبل، وكان خارجا عن الاحتمالات والتوقعات، وهو كذلك مستبعد على دولة كأمريكا التي يضع مخططاتها وبرامجها جيش من الموظفين والمفكرين وراسمو السياسة.
فالراجح أن ما يحصل هو أن إدارة ترامب تريد تهيئة الأجواء للسير في هذا التهجير القسري الذي سبق أن رفضه الحكام وخاصة في مصر والأردن، وبعبارة أخرى هي عملية (جس للنبض) إن كان يستطيع هؤلاء الحكام الضغط على الناس لتنفيذ تصريح ترامب وتهجيرهم من بلادهم وتفريغها وضمها ليهود أو تأجيل ذلك إلى وقت آخر يراه ترامب مناسباً، إن وقف الناس بوجه النظامين فمنعوهما من هذه الخطوة الخيانية.
بمعنى أن ترامب سيسير في مخطط التهجير لتنفيذه في اللحظة التي يراها ممكنة بأقل الخسائر الجانبية، ولا مانع لديه من التريث والاكتفاء بالتهيئة حاليا وهو ما عبر عنه بقوله: "غزة بالنسبة لنا هي صفقة عقارية، حيث سنكون مستثمرين في تلك المنطقة، ولن نتعجل في اتخاذ أي خطوة".
وهو ما سرَّ يهود وأسال لعابهم، ونتنياهو هو أكثر من فرح بالمخطط لأنه فضلا عن كونه يتلاقى مع أحلامهم التوراتية ومخططاتهم بتهجير أهل فلسطين وبقائها لهم، فإنه أيضا شكل طوق نجاة له ولحكومته، فنتنياهو كان قد أرجأ مفاوضات المرحلة الثانية التي كان من المقرر البدء بها قبل سفره إلى أمريكا إلى ما بعد لقائه بترامب، وكان قد أعلن قبل ذهابه إلى واشنطن أن لديه شرطاً لاستئناف المفاوضات يتمثل بموافقة حماس على خروج قادتها من القطاع، فلما حصل ما حصل في لقائه بترامب سارع إلى إرسال الوفد لمفاوضات المرحلة الثانية وتناسى شرطه، لأن مسألة التهجير التي تحدث عنها ترامب قد تقنع سموتريتش بالبقاء في الحكومة بدلا من التهديد بالانسحاب ما لم يستأنف نتنياهو الحرب بعد المرحلة الثانية، فمخطط ترامب بتهجير أهل غزة والقضاء على حماس واستعادة كافة الرهائن شكل هدية وطريقة لتنفيذ مخططات نتنياهو وسموتريتش دون العودة للحرب، ودون تعريض حكومة نتنياهو للانهيار وذهابه إلى المحاكمات.
ولذلك شاهدنا كيف أن جيش يهود عاد إلى الالتزام بالتوافقات من مثل الانسحاب من محور نتساريم، حيث انسحب منه، صباح الأحد 9/2/2025، وذلك تطبيقاً لاتفاق الهدنة.
فنتنياهو على ما يظهر قد راقت له مخططات ترامب في تحقيق الأهداف الثلاثة، دون العودة إلى الحرب، وهي المسألة التي ظهر أن ترامب لا يريدها بقوة، وهو ما عبر عنه نتنياهو في مقابلة له مع قناة فوكس نيوز حيث وصف فكرة ترامب بالفكرة العظيمة والتي تبدو في البداية غريبة للبعض ولكنها ستبدو لاحقا ممكنة وتشكل حلا جذريا لمشكلة غزة، فهم الآن يريدون الذهاب إلى المرحلة الثانية والثالثة لاستعادة الرهائن وتهيئة الأجواء لإنهاء الحرب ووضع ترتيبات إخراج حماس من المشهد، ولكن ذلك يترافق مع السير في مخطط التهجير، وقد بدأت عملية التضييق بالفعل على أهل غزة، فيهود ومنذ بدء سريان وقف إطلاق النار يماطلون في السماح بإدخال المساعدات الإنسانية والخيام والبيوت المتنقلة، فضلا عن نقص المياه والغذاء والظروف الصحية، لجعل خيار العيش والبقاء في القطاع أمرا عسيرا إن لم يكن مستحيلا، في مقابل إتاحة فرصة الهجرة إلى أماكن يتم فيها توفير ظروف حياة مقبولة. وبذلك يكون ترامب بإعلانه عن مخطط التهجير ووعده بالعودة إلى اتفاقيات أبراهام والعودة إلى التطبيع مع البلاد الإسلامية والتفكير بموضوع التوسع في الضفة الغربية خلال الأسابيع الأربعة القادمة، يكون قد ضمن ولاء يهود له وسير نتنياهو وفق مخططاته.
هذه مخططاتهم وتلك أحلامهم ولكن المسلمين لن يسلموا بها، بل ستتحطم كلها على صخرة صمود الأمة الإسلامية، وما تمسك أهل فلسطين بأرضهم وثباتهم عليها 77 عاما أمام يهود ومن خلفهم كل قوى الاستعمار إلا دليل على أن الأمة ليست كحكامها المتخاذلين، وأن ما يراه ترامب من تعاون واستجابة من الحكام العملاء لن يرى مثله من الأمة وأهل فلسطين.
وما يظنه ترامب ونتنياهو من أن أهل غزة وفلسطين متمسكون بأرضهم لعدم وجود خيار بديل إنما هو قصر نظر لديهما وقياس للمسلمين عليهما وعلى شعوبهم المهترئة. فأمة رسول الله ﷺ برجالها الصادقين المخلصين ستجعل تصريحات ترامب وأتباعه من الحكام هباء منبثا، ومن ثم تعود الأرض المباركة لأهلها دار إسلام، فالخلافة الراشدة، عائدة قريبا بإذن الله، وقتال يهود وإزالة كيانهم كائن بإذن الله، ومن ثَم تشرق الأرض بنصر الله القوي العزيز.
* عضو المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
رأيك في الموضوع