أعلن البرهان في بيان الانقلاب الذي بثه التلفزيون القومي أن القوات المسلحة بصفتها السلطة المؤسسة للفترة الانتقالية ومن منطلق مسؤولياتها الوطنية في حماية أمن وسلامة البلاد وفي سبيل سعيها لتحقيق تطلعات الشباب وفي ظل تكالب القوى السياسية على السلطة والاصطفاف الجهوي والعنصري فقد قامت القوات المسلحة والدعم السريع والأجهزة الأمنية الأخرى باتخاذ خطوات تحفظ ثورة ديسمبر حتى بلوغ أهدافها النهائية والوصول لدولة مدنية كاملة وفق انتخابات حرة ونزيهة، وقال إن القرارات تشمل إعلان حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد والتمسك الكامل والالتزام التام بما ورد في الوثيقة الدستورية واتفاق سلام السودان الموقع في جوبا، وقام بحل مجلسي السيادة والوزراء وإعفاء جميع الولاة وتجميد عمل لجنة إزالة التمكين، وأنه سيعمل على تحسين معاش الناس وتهيئة المناخ للأحزاب للاستعداد للانتخابات.
وهكذا منذ أن هدم الكافر المستعمر الخلافة يتقلب السودان بين الحكم العسكري والحكم المدني، وكلاهما ينبع من مستنقع آسن واحد وهو النظام العلماني الرأسمالي الذي يسيطر على مفاصل الحكم في السودان. وباستقراء الحكومات التي توالت على حكم السودان يظهر ذلك جليا، فقد بلغ عدد الحكومات منذ الاستقلال وحتى حكومة حمدوك الانتقالية التي تم حلها، أكثر من خمسين، فقد شهد ما يسمى العهد الوطني الأول في الفترة من كانون الثاني/يناير 1958 وحتى 17 تشرين الثاني/نوفمبر 1985 تكوين 5 حكومات. ثم في فترة الحكم العسكري الأول برئاسة إبراهيم عبود التي امتدت من 17 تشرين الثاني/نوفمبر 1958 وحتى 21 تشرين الأول/أكتوبر 1964 تكونت حكومتان بتعديل وزاري واحد.
وخلال عامي 1964-1965 قامت حكومات تشرين الأول/أكتوبر التي امتدت من يوم 21 تشرين الأول/أكتوبر 1964 وحتى نهاية عام 1965، وشهدت البلاد خلال هذه الفترة قيام ثلاث حكومات بتعديلين، وخلال عام واحد كانت جملة حقائبها 40 حقيبة وزارية.
وفي فترة الديمقراطية الثانية التي أعقبت حكومة تشرين الأول/أكتوبر وانتهت بانقلاب أيار/مايو 1969 ثم تكونت أربع حكومات ائتلافية.
وخلال حكم النميري تكونت حكومات استمرت طوال 16 عاماً، عشر حكومات برئاسته شخصياً. ثم تلتها فترة حكومة الانتفاضة برئاسة المشير عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب رئيساً للمجلس العسكري الانتقالي ودكتور الجزولي دفع الله رئيساً للوزراء ولم تشهد هذه الحكومة تعديلات كثيرة تذكر.
وفي فترة الديمقراطية الثالثة التي امتدت من 6 نيسان/أبريل 1986م وحتى 30 حزيران/يونيو 1989 تم تشكيل 5 حكومات كلها برئاسة الصادق المهدي، بلغت جملة حقائب حكومات هذه الفترة ذات السمة الائتلافية 106 وزيراً. وفي ظل حكم الإنقاذ الذي بدأ منذ 30 حزيران/يونيو 1989 وحتى عام 2013 شهدت البلاد خلال هذه الفترة تكوين أكثر من 16 وزارة وتعديلاً وزارياً بلغت جملة حقائبها أكثر من 400 حقيبة وزارية.
وبعد نجاح حراك أهل السودان الذي انطلق في كانون الأول/ديسمبر 2018، وإسقاط نظام الرئيس المعزول عمر البشير، أعلن عبد الله حمدوك عن تشكيل حكومته، لتكون أول حكومة بعد الثورة.
رغم هذا الكم الهائل من التعديلات والتشكيلات الوزارية، والأعداد الفلكية للوزراء، والانقلابات العسكرية، رغم كل ذلك يزداد الحال سوءاً على سوء، ولا يزال الناس يطالبون بإسقاط النظام، وهذا خير دليل على أن التغيير الذي ينشده الناس لم يتم حتى الآن! فهذه الحكومات لم تفهم معنى التغيير، ولا معنى الحكم، وربطوه بأشخاص، وغضوا الطرف عن أساس المشكلة؛ وهو النظام والدستور والقوانين التي تحكم البلاد، لأن أنظمة الحكم الموجودة بعيدة كل البعد عن نظام الإسلام من حيث الشكل والمضمون، فهي ليست مأخوذةً من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، بل هي أنظمة على النقيض من نظام الإسلام، وهذا أمر محسوس ملموس للمسلمين لا يختلفون عليه. وعندما تفشل هذه الحكومات يظن الناس أن الفشل يتعلق بالأشخاص لا بالأفكار ولا الأنظمة فمن الطبيعي أن تفشل هذه الحكومات، لأنها لم تقم على فكرة صحيحة.
فأي نظام ليس من الإسلام يصاحبه الفشل حتماً، لذلك فإن التغيير الحقيقي ليس في تغيير الوجوه بوجوه جديدة في حكومة قديمة جديدة، تقوم على النظام الرأسمالي الديمقراطي نفسه في الحكم وسياسة شئون الناس؛ إن الحكم عندهم هو مغنم (سلطة وثروة)، وأكلٌ لأموال الناس بالباطل عبر الجبايات والضرائب الحرام، من أجل أن تمتلئ بطون المستوزرين وأشباههم، الذين يرتعون في مال الأمة على حساب معاناتها وفقرها.
إن التغيير الحقيقي الذي تنشده الأمة إنما يتمثل في تغيير النظام برمته، لأنه أسّ الداء ورأس البلاء، ووضع نظام منبثق عن عقيدة الأمة؛ الإسلام العظيم الذي يتساوى فيه الحاكم والمحكوم أمام الحكم الشرعي، بل الحاكم فيه خادم للأمة؛ وليس متسلطاً عليها ليجلد ظهرها ويأكل مالها! نظام يتسابق فيه الساسة والحكام للسهر على حاجات الأمة الأساسية؛ من مسكن ومأكل وملبس وتعليم وتطبيب وأمن، وهو نظام الإسلام الذي أسسه النبيُّ ﷺ، وسار على خطاه الصحابة الكرام، والخلفاء العظام، فامتلأت الدنيا عدلاً بعد أن ملئت جوراً، وها هو الجور يعود في ثياب الرأسمالية. فلنُعِدْها خلافة كخلافة الراشدين، فنسعد بها في الدنيا بعيش رغيد، وننشر العدل في ربوع العالم، ويرضى بها عنا ربُّ العالمين.
وقد حدد الإسلام شكل الدولة، وصفتها، وقواعدها، وأركانها، وأجهزتها، والأساس الذي تقوم عليه، والأفكار والمفاهيم والمقاييس التي تُرعى الشؤون بمقتضاها، وجعل دستورها منبثقاً عن كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وما أرشدا إليه. وهو نظام خاص متميز لدولة متميزة هي دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة؛ فهي وحدها القادرة على إنهاء مسلسل الانقلابات العسكرية، أو المدنية التي لا تستند إلى عقيدة الأمة. فالخليفة ليس حاكماً متسلطاً، كما أنه ليس له من الحقوق أكثر ما للأمة، فهو أول من يجوع إذا جاع الناس، وآخر من يشبع عندما يشبعون، يضع نصب عينيه حديث النبي ﷺ: «وَإِنَّهَا أَمَانَةُ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا».
لقد لدغنا من جحور هذه الأنظمة مرات ومرات، فلنعمل مع العاملين لإعادة حكم الإسلام؛ بإعادتها راشدة على منهاج النبوة، فهي عزكم ومرضاة ربكم، فوق كونها فرضاً، قال الحبيب ﷺ: «وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
بقلم: الأستاذ عبد الخالق عبدون علي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع