بدءا يجب أن يكون معلوما أن من بديهيات الفقه السياسي أن دويلات الوظيفة الاستعمارية في سياساتها الخارجية هي رهن وقيد للرؤية السياسية والاستراتيجية للدولة الاستعمارية الفاعلة فيها، فالأمر من مقتضيات الوظيفة الاستعمارية ومن كون الفاعل فاعلا والمفعول فيه وبه محلَّ فعل. وعليه لا يتأتى لهذه الكيانات الطفيلية في بلاد المسلمين أن تخرج قيد أنملة عن المرسوم والمخطط له من المستعمر الفاعل وتحديدا في سياساتها الخارجية، فهذه الكيانات وحكامها العملاء ليسوا سوى أدوات لسياسة المستعمر.
حقيق أن وراء الأكمة ما وراءها، هناك دسائس وخبايا استعمارية تظهر بعض أطرافها وتختفي أخرى، إلا أن الحقيقة الفاضحة التي تعلو الأكمة هي أن بلاد المسلمين من مشرقها إلى مغربها مستعمرة للغرب الكافر تتناوشها كلابه، ثمنها يدفع من دماء أبنائها وثرواتهم، والأنكى والأفحش ثمنا يُدفع من إسلامهم العظيم. وما كان توتير العلاقات بين الجزائر والمغرب إلا من ملحقات تلك الدسائس والسياسات والمخططات الاستعمارية.
اندلعت الأزمة الحالية بعيد قرار إدارة ترامب الأمريكية الاعتراف بمغربية الصحراء بتاريخ 10 كانون الأول/ديسمبر 2020، واتخذ من التطبيع مع كيان يهود وبرنامج تجسسه "بيغاسوس"، عطفا عليه دعوة ممثل المغرب الدائم لدى الأمم المتحدة إلى حق تقرير المصير لسكان منطقة القبائل بالجزائر، فتيلاً لإشعال نار الأزمة، ثم أعقبها إعلان وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة عن قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب في آب/أغسطس 2021، وبعد شهر من ذلك تم إغلاق المجال الجوي بالجزائر أمام طيران المغرب، ثم كان قرار الرئيس عبد المجيد تبون بعدم تجديد عقد استغلال خط أنابيب الغاز الذي يزود إسبانيا مرورا عبر المغرب والاقتصار على أنبوب الغاز البحري ميدغاز الذي وضع في الخدمة عام 2011، ثم كان البيان الأخير للرئاسة الجزائرية يوم الأربعاء 03 تشرين الثاني/نوفمبر 2021 عن مقتل ثلاثة سائقي شاحنات جزائريين أثناء تنقلهم بين نواكشوط وورقلة في قصف نسب للمغرب. هكذا توالت أحداث توتير العلاقات وتصعيد التوتر واصطناع الأزمة.
هذا عن الطرف الظاهر من الدسيسة الاستعمارية التي تنفذها الأدوات بأساليب خبيثة للتعمية عن حقيقة السياسة الاستعمارية. أما الطرف الخفي وهو الأهم معرفته وهي السياسة الاستعمارية جذر وأصل البلية والتي ما كانت هذه السياسات المحلية إلا أساليب في تنفيذها. وعليه ولفهم تلك السياسة لا بد من معرفة صاحبها، وهل هي من باب المناورة السياسية للمستعمر الواحد أو من باب الصراع الاستعماري.
فمتى عُلِمَ أن النظامين في المغرب والجزائر تبعيتهما وولاؤهما وعمالة حكامهما هي لبريطانيا قصرا وحصرا انتفى بذلك الصراع الاستعماري، وأصبحت السياسات الخارجية للنظامين تصنف في باب المناورة السياسية التي تدار بأساليب مختلفة شديدة التركيب والتعقيد والخفاء لتحقيق أهداف السياسة الاستعمارية الواحدة لبريطانيا تحديدا. وعليه فممتنع ومتعذر النظر إلى السياسات الخارجية للكيانات الوظيفية كسياسات متضاربة تهدف لنسف الأصل الاستعماري الواحد، بل حقيقتها أنها سياسات متكاملة متجانسة في نسق السياسة الاستعمارية الواحدة، حتى وإن كانت هذه السياسات في ظاهرها توحي للوهلة الأولى أنها سياسات متضاربة بل ومتناقضة، ولكن بإمعان النظر وسبر أغوار عمقها السياسي وربطها بأصلها الاستعماري ينجلي الغموض فيبرز الهدف الواحد من وراء هكذا سياسات للكيانات الوظيفية الاستعمارية. وبناء عليه يصبح فهم ظروف وسياق الوقائع والأحداث وربطها بأصلها الاستعماري هو الكفيل بكشف الرؤية الاستعمارية الكامنة وراء الأزمة المفتعلة والتوتر المصطنع بين الجزائر والمغرب.
أما الخط الاستعماري العام الحاكم لهكذا أزمات في بلاد المسلمين عامة بين هذه الكيانات الطفيلية التي أقامها الاستعمار على أنقاض دولة الخلافة، فهو اصطناع أزمات حدود وصراعات أنظمة عميلة لتغذية النعرات والعصبيات الوطنية والقومية لتثبيت الانقسام والتشرذم وتركيزه كواقع لا كحالة مَرَضِية وجب التخلص منها، عطفا عليها ذلك التوظيف السياسي المقيت للأزمات والعدوان الخارجي المزيف في التعمية عن العطالة السياسية لهكذا أنظمة وظيفية وعطبها المدمر في تدبير وإدارة شؤون المجتمع والخراب الذي أنتجته عقود من إفلاسها فضلا عن التعمية عن العدو الخارجي الأصيل والحقيقي وهو المستعمر الغربي الكافر.
أما الخط الاستعماري الخاص والناظم للأزمة بين المغرب والجزائر فيجد نسقه وسياقه كما تجد الأزمة خلفيتها ومبررات وجودها في قضية الصحراء. فالأزمة المصطنعة نشبت بُعيد نشوء قضية الصحراء التي كانت صناعة أمريكية بامتياز، حتى وإن وظفها النظام بالمغرب في التخلص من عساكره المشاكسين بعد الانقلابين الفاشلين (1971 و1972) والزج بهم في رمال الصحراء وإبعادهم عن دائرة الحكم. فأمريكا بعد فشل الانقلابين واستعصاء قلع النفوذ البريطاني في كل من المغرب والجزائر والذي تجذر عبر حاكمي البلدين الحسن الثاني وبومدين، أصبح الطريق إلى هذين البلدين مغلقا أمام أمريكا إلى أن وجدت الفرصة في حركة البوليساريو لاستقلال الصحراء في سبعينات القرن الماضي، فأسندتها أمريكا وأبرزتها وشرعنت وجودها كممثل لأهل الصحراء في المحافل الدولية، ثم بدأت أمريكا في التدخل الفعلي بعد ذلك مباشرة عن طريق تأثيرها في إصدار قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن المتعلقة بالصحراء وعبر إيفاد مبعوثيها إلى المنطقة.
ولمواجهة التحركات الأمريكية وضعت بريطانيا خطتها وأوكلت للمغرب والجزائر تنفيذها، فكان للنظام المغربي الشق المتعلق بالمواجهة المباشرة عسكريا وسياسيا لقطع اليد الأمريكية "البوليساريو"، وكان للنظام الجزائري الشق المتعلق بالتحجيم والاحتواء لتعطيل وشل الحركة.
وكان من مستلزمات التحجيم والاحتواء اصطناع واجهة عدائية واختلاق أزمة بين النظامين في المغرب والجزائر، وذلك الذي كان، ففي عام 1976 اندلعت مناوشات عسكرية بين البلدين، وفي آذار/مارس 1976 تم قطع العلاقات بين المغرب والجزائر على خلفية دعم الأخيرة لجبهة البوليساريو. وهكذا انطلق النظام الجزائري في تنفيذ السياسة التي رسمت له في تحجيم واحتواء حركة البوليساريو والتحكم والضبط لإيقاعها، وكان ذلك حيث تم إيواؤها وحُدد لها مكان وجودها وانتقي لها في مكر ودهاء تامين مخيم تندوف بولاية بشار بالجزائر مقرا لقيادتها ومستقراً لها، أي داخل حدود وتحت سلطة النظام الجزائري، وليس على أرض الصحراء الأمر الذي يعطي البوليساريو استقلالية وقدرة على الحركة والمناورة أوسع، لكن وجودها في تندوف يجعل سقف حركتها تحت سقف الجزائر فضلا على اعتمادها الكلي تسليحا ومؤونة عليها، ما يجعل سياسة الاحتواء فعالة، وهكذا كانت واستمرت الأزمة كأسلوب لإدارة سياسة التحجيم والاحتواء.
ثم كان بعدها إغلاق الحدود بين البلدين وخاصة الشرقية للمغرب عام 1994، إلا أن الظرف حينها لم يكن البتة قضية الصحراء، بل حراك أهل الجزائر على أساس الإسلام وترنح النظام تحت ضغط الشارع، فكان إغلاق الحدود لقطع الاتصال والتواصل بين أبناء الأمة الواحدة خشية امتداد وانتشار وتوسع حراك أهل الجزائر إلى المغرب، فيصبح حينها حراكا عابرا للحدود الاستعمارية ما يقوض الدولة الوطنية ووظيفتها الاستعمارية، ويعطي زخما وقوة للحراك في تحويله لحراك أمة وليس حراك شعب داخل كيان استعماري وتحت سقف وطنيته.
رأيك في الموضوع