هنالك مفارقة عجيبة يجب فكها تتمثل في قولنا إن هذه الدول الوطنية القائمة اليوم في بلاد المسلمين هي من صنع المستعمِر وتابعة له، في حين إننا لا ننكر أن نشأتها جاءت في كثير من تلك الأقطار نتيجةَ تضحياتٍ جسيمة ضمن صراعاتٍ عسكرية أي ثورات دامية على هذا المستعمِر وُظفت فيها جهود ودماء أبناء الأمة وأموالها بل كل طاقات شعوبها، فكان لا بد من اعتبارها من هذه الزاوية إنجازاً تجب المحافظةُ عليه. وكان ينبغي بعد التحرر أن تقطع الدولُ الناشئة الوصال مع المستعمر باعتباره عدواً، لا أن تكرس استمرارية هيمنته على مقدراتها بعد نيل (استقلالاتها). لعبة سياسية من الطراز الثقيل جعلت الكثير من المسلمين اليوم بعد عقود يتمنون بلسان الحال والمقال إدارة المستعمر المباشر بدل وكلائه من أبناء جلدتنا، الذين أتقنوا أداء المهمة في إذلال الشعوب وإفساد حالها، بل وأبدعوا في كافة المجالات في تنفيذ المطلوب بدرجة عالية من الدقة والكفاءة والإجرام والسفالة.
فهل ينبغي إذاً هدم هذه الدول الوطنية القائمة اليوم وإعادة البناء من جديد أم ترميمها وإصلاح قوائمها؟ وبما أن التغيير بات ملحاً بالنظر إلى إخفاقها في إحداث أي نهوض أو تقدم يذكر، فما الذي ينبغي هدمُه من الدولة الوطنية الحالية التي أوصلت الشعوب الإسلاميةَ إلى هذه الحالة التعيسة من الفوضى والانسداد، بعد أن أفسدت أحوال الناس على كافة الأصعدة على مدى عقود وكرست كل أصناف التخلف والضعف والرداءة والتبعية، وهي الآن حريصة على استمرار حالة التقهقر والتردي والانحدار؟ وما هو البديل؟ وهل إصلاح حال الأمة يمر حتماً عبر هدم هذه الأوطان والتنكر للوطنيات القائمة؟ وما الذي يعنيه هذا الهدم؟ كل هذا وغيرُه ينبغي بلورتُه والإجابة عليه بشكل جلي لا يترك لبساً.
إذا كان الحل الجذري الذي يقدمه حزب التحرير للأمة هو الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، فلأنها هي الجامعة لكلمة الأمة، الموحدة لها بكل أطيافها، المفعِّلة لكل طاقاتها وما أكثرها، وهي وحدها القادرة على قطع الحبال مع المستعمر الغربي والمؤهلة لتمثيل المسلمين على المسرح الدولي، وهي المجسدة لعودة الأمة إلى الإسلام على مستوى الحكم. وهذا الحل ليس خياراً من بين خيارات ظرفية ، وإنما هو حكم الله في مسألة تحديد ما ينبغي أن يكون عليه وضع الأمة وحالها في جميع الأوقات وبالأخص إزاء علاقة المسلمين مع الشعوب والأمم الأخرى. ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾. أما ما تعيشه الأمة الإسلامية اليوم من ضعف وفرقة وتشرذم على أساس الفكرة الوطنية المفروضة عليها من الغرب، فهو حالة طارئة لن تدوم.
ولكن كيف ينبغي أن يكون خطابُنا بخصوص فشل الدولة الوطنية الحالية على كافة الأصعدة في سياق ما يتحدث به الناس عند مقارنة أوضاعهم في ظلها، من حيث الرعاية خاصةً، مع حالهم خلال فترات الاستعمار الأوروبي المباشر مثلاً، وقول الكثير من السذج إن الاستعمار المباشر أفضل؟ نعم إن الدولة الوطنية أوصلت أبناء الأمة إلى هذه الحالة الرهيبة من الإحباط والهبوط الفكري والنفسي وربما إلى ما هو أسوأ من ذلك! فحُق للأمة أن تتساءل مَن أوصلها إلى هذه الحالة الفظيعة من الانهزامية والتراجع والتصدع والانهيار؟ وحيث إن الدولة الوطنية الحالية التي نشأت أو قامت نتيجة تضحيات كبيرةٍ وأحداث جسيمةٍ تمثلت في كثير من بلاد المسلمين في ثوراتٍ مسلحة داميةٍ على المستعمِر الأوروبي الغاشم، فإن خطاب أغلب أصحاب المنابر والأقلام - من الإسلاميين خاصةً - يعتبرها إنجازاً لا يصح هدمُه بل ينبغي المحافظةُ عليه ثم البناء عليه بالتدرج "على طريق التحرر" وطلب المزيد، بينما تقول النظرة الواعية المبدئية من زاوية الإسلام إن الدولة الوطنية ليست إنجازاً بالمرة، وإنما هي امتداد لحكم المستعمِر في ثوب جديد، أي هي لعبة استعمارية جديدة من هذا الطرف أو ذاك بأساليب ووسائل جديدة غاية في الخبث والمكر، يجري بواسطتها تسويق حضارة الغرب وطراز عيشه ونظرته للحياة وتفوق الإنسان الغربي مادياً ومعنوياً بعكس صورة وشخصية المستعمر الغربي في أذهان ومشاعر أهل البلاد. وهو ما يعني تكريس هيمنة هذا المستعمر الرأسمالي البغيض على البلدان سياسياً واقتصادياً وثقافياً وإطالة عمر سيطرته على الشعوب الإسلامية ومقدراتها وثرواتها. بل إن الدولة الوطنية هي في حقيقة الأمر أداة مهمة وفعالة لإفشال أو احتواء انتفاضاتها وثوراتها المستقبلية.
إن الجواب على كل ذلك يكمن في أمرين اثنين: الأول هو أن المستعمر الغربي حرص بعد إحراز انتصاره بهدم الخلافة على ألا يستيقظ المسلمون إلا وفق ما يريد ويخطط، لئلا تثار مسألةُ إعادة الخلافة في بلاد المسلمين من جديد. فكان إقصاء الإسلام من ثورات الشعوب المسلمة بإبعاده عن مطالبها عبر المطالبة بالدولة المدنية العلمانية. وهنا تبرز سذاجة أكثر "الإسلاميين" سياسياً في كل محطة من محطات الصراع مع المستعمِر بجعل المطالبة بالتغيير تحت سقف الدولة الوطنية وضمن إطار ثوابتها. أما الأمر الثاني الذي عقَّد المشكلة بشكل كبير فهو أن المستعمر الغربي ليس جهة واحدة، بل إن البلاد الإسلامية على اتساعها أصبحت بعد هدم الخلافة وبالأخص بعد الحرب العالمية الثانية مسرحاً للصراع الدولي خاصة بين الأوروبيين الذين هدموا الخلافة وحلوا محلها في حكم بلاد المسلمين مباشرةً ثم بواسطة العملاء، وبين الأمريكيين الذين قرروا أن يحلوا محل الأوروبيين في حكم بلاد المسلمين!! فأكثر ما تكون ثورات وانتفاضات المسلمين على أوضاعهم التعيسة المزرية في أي قطر من بلادهم بتدبير وتخطيط من طرف مستعمرٍ ضد آخر تُوظف فيها سذاجة المسلمين السياسية وحماستهم وتستنزف فيها دماؤهم وأموالهم، وهذا هو ما يفسر كل مآسي المسلمين اليوم في كافة أقطارهم، إذ يصل الأمر في أغلب الحالات إلى اقتتال المسلمين فيما بينهم من أجل تنفيذ خطط أجنبية وتحقيق أهداف ومصالح هذا الكافر المستعمِر أو ذاك، وهذا من أعظم المصائب.
لذا يجب الإقرار بوجوب هدم الدولة الوطنية التي يجب أن يتفق الجميع على أنها أنشئت من طرف المستعمِر وجُعلت علمانيةً تقصي الإسلام عن الحكم خصيصاً لخدمة أغراضه، ولكن يجب هدمها فكرياً وسياسياً لتحل محلها دولة المسلمين التي هي الخلافة وليست شيئاً آخر، ليس لأن الدولة الوطنية فاشلة في رعاية المسلمين ولا يُنتظر منها شيء من تحسين أوضاعهم على أي صعيد ولو بعد مئات السنين فحسب، بل لأنها تسير بهم إلى الوراء، كونها أداة بيد المستعمرين الغربيين بوصفهم كفاراً تجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً عبر وكلائهم للحيلولة دون عودة الإسلام وشريعته إلى واقع الحياة، ولتكريس استمرار الهيمنة الاستعمارية والفرقة والضعف والتشتت في بلاد المسلمين بأيدي المسلمين، وهو ما يحرمه الإسلام بشكل قاطع.
رأيك في الموضوع