قام الرئيس التونسي قيس سعيّد وبتخطيط مُسبق بانقلابٍ خاطف وسريع، فأطاح بالمنظومة السياسية التونسية برمتها، والتي تشكلّت بعد الثورة على أنقاض نظام زين العابدين بن علي، وتتمثّل هذه المنظومة بالحكومة والبرلمان والادعاء العام، فجمع سعيّد السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية بيده، وأصبح هو الحاكم والقاضي والمشرع في آنٍ واحد، مُستنداً في عمله هذا إلى انحياز الجيش له، ومُعتمداً على تفسير المادة 80 من الدستور التونسي بما يُوافق هواه.
لقد قضى سعيّد بهذا الانقلاب السهل على آمال الذين ظنّوا أنّ الديمقراطية في تونس قد تجذرّت وترسخت بعد ثورة الياسمين، وأجهض سعيّد بانقلابه جهود عشر سنوات من العمل الديمقراطي الدؤوب داخل أروقة البرلمان، والذي كان أحد أهم ثمار هذا العمل المضني والذي يوصف بأنّه النتاج الحقيقي للثورات العربية التي تلاشت من جميع دول الربيع العربي ولم يتبق منها شيء ذو قيمة إلا في تونس، والتي باتت تُعرف برمز هذه الثورات وأيقونتها.
لكنّ هذه الأيقونة الجميلة - في نظرهم - قد سقطت هي الأخرى الآن، وتلاشى مع سقوطها خيار الديمقراطية التعدّدية الذي عوّلوا عليه كثيراً في تونس وفي الدول العربية، ففشل هذا الخيار في الصمود أمام مجرد رئيس مبتدئ قليل الخبرة، وبإسناد من بعض الضباط والعسكر ودعم من فرنسا أمّ الديمقراطية والحرية.
فأين هي إذاً القوى الديمقراطية في تونس؟ وأين هي شعبيتها؟ ولماذا لم ينزل الناس إلى الشوارع لدعمها؟
إنّ الشعب في تونس هو جزء من الأمّة الإسلامية فلا يؤمن إلا بالاسلام، وإنّ كل الجعجعات الديمقراطية منذ عشر سنوات في تونس لم تستطع تغيير قناعته بالإسلام العظيم، فالديمقراطية في نظر المسلم هي تماماً كالدكتاتورية لأنّها حكم بغير ما أنزل الله، والمسلم عندما تُعرض عليه المفاضلة بين الاستبداد والديمقراطية لا يفاضل ولا يقارن بينهما بمعزل عن الإسلام، فهما في نظره غير إسلاميين وهما بذلك سواء، فهذا نظام كفر وذاك نظام كفر.
لقد وقف الناس أمام هذا الانقلاب على الحياد، فلم يؤيدّوا قيس سعيّد كونه طاغية مستبداً تابعاً لفرنسا، ولم يؤيدوا الديمقراطية التعددية لأنّها ومنذ عشر سنوات لم تجلب لهم سوى الكوارث السياسية والاقتصادية والإنسانية، فجربّوا منذ سقوط بن علي تسع حكومات ديمقراطية لم تسفر إلا عن انهيار اقتصادي وعقم سياسي، فالبطالة بلغت 36% والانكماش في القطاع الصناعي بلغ 9%، ومات أكثر من عشرين ألف إنسان نتيجة الفساد في المرافق الصحية.
الرئيس ضعيف وانحاز لفرنسا كي يتقوى بها فلم تزده إلا ضعفا وبعدا عن شعبه، والحكومات المتعاقبة تابعة لبريطانيا وفاسدة، والبرلمان لا يجيد إلا الثرثرة والمُناكفات، والمنظومة السياسية برمتها هشة وفاسدة، لذلك وقف الناس موقف المتفرّج، فلم ينصروا فاسداً على فاسد.
زعم الرئيس سعيّد بأنّه سيحارب اللصوص والفاسدين فإذا به يحارب الشرفاء ويعتقل نواب ائتلاف الكرامة كمحمد العفاس لا لشيء إلا لأنّهم يهاجمون أسياده الفرنسيين، وادّعى بأنّه يقف مع الدستور، فإذا به يقوم بعرض مواد من الدستور الأمريكي ويدافع عنها ويشرحها باللغة الفرنسية، ولم يأت على ذكر دستور البلاد الذي انقلب عليه، ولم يعرضه باللغة العربية التي يتشدق بها في عرض تفاهاته السياسية.
وأمّا موقف رئيس البرلمان التونسي المحسوب على حركة النهضة (الإسلامية) راشد الغنوشي فبدا موقفه باهتاً هزيلا، إذ عرض مزيداً من التنازلات من أجل ما أسماه بعودة الديمقراطية، ودعا إلى الحوار الوطني أو قل حوار الطرشان، وقال بأنّه مُتفائل بمستقبل الديمقراطية في تونس، وكأنّ الديمقراطية عنده أصبحت بديلاً عن الإسلام، فهو ينافح عنها وكأنّها وثن يُعبد!
إنّ هذا الرجل الذي نقل حزبه من حزب له سمت إسلامي إلى حزب علماني مضاد للشريعة الإسلامية، ولم يكتفِ بفصل كل ما هو دعوي عن كل ما هو سياسي على طريقة العلمانيين في الفصل التام ما بين الدولة والسياسة، بل واعتبر أنّ الدولة ليس من مهمّتها فرض الإسلام على الناس، وإنما مهمتها تُختزل فقط في حفظ الأمن العام وتقديم الخدمات فقال: "الناس تصلي أو ما تصلي، يسكروا أو ما يسكروا، النساء تلبس الخمار أو ما تلبس الخمار، هذا كله متروك للناس".
فمن الطبيعي إذاً عندما يسمع المسلم مثل هذا الكلام من زعيم حزب إسلامي ولو شكلياً، أنْ يكفر هذا المسلم بالديمقراطية، وألا يفرق بينها وبين الدكتاتورية، خاصة وأن كلتيهما قد أخفقتا في تحسين الوضع الاقتصادي للناس، وفي قطع أيادي الاستعمار عن مقدرات الدولة.
وأما من ناحية سياسية فالغنوشي الذي سبق أن خضع لاستجواب مجلس العموم البريطاني قبل انخراطه في العمل السياسي في تونس، قد جاء إلى تونس بعد الإطاحة ببن علي ليقوي رجال الإنجليز في البلاد، ومنهم الرئيس المقبور السابق الباجي قائد السبسي الذي كان من جماعة بورقيبة عملاء الإنجليز المعادين للإسلام بضراوة.
فهؤلاء الديمقراطيون لا يختلفون كثيراً عن قيس سعيد الذي ارتمى بحضن الفرنسيين، والنتيجة أنّه بدل أن يكون الصراع بين المسلمين وبين عملاء وأذناب الاستعمار، أصبح بين عملاء فرنسا وعملاء بريطانيا، وتحولت الدولة إلى مزرعة يتقاتل عليها اللصوص الأجانب.
إنّ المشروع العملي الوحيد القادر على إسقاط حكم الاستبداد في تونس وفي كل البلاد الإسلامية هو مشروع الإسلام العظيم، فالإسلام هو دين عامة أهل البلاد، وربطه بالعمل السياسي ربطاً مُحكماً هو الذي يُمكّن دعاة التغيير من التغلب على عملاء فرنسا وبريطانيا في تونس في آنٍ واحد، وهو الوحيد الذي يستطيع استئصال النفوذ الأجنبي برمته من البلاد.
رأيك في الموضوع