إن من الحقائق التي لا خلاف عليها والتي اتفق عليها جميع الناس بمختلف أعراقهم ولغاتهم وطبائعهم وأصبحت من المسلّمات أنه لا يمكن أن يكون هناك دولة أو جيش أو كيان أو جماعة إلا بقيادة وهذه القيادة هي التي تسيّر أمورها. ومهما علت وارتقت فهي لا تخرج عن أحد أمرين؛ إما قيادة تقود مَن خلفها إلى النجاح وبرّ الأمان، وإما أن تقودهم إلى الفشل والهلاك.
ونضرب مثالين من سيرة نبينا ﷺ على ذلك:
وصل خبر لأبي جهل وهو زعيم قريش وقائدها من أبي سفيان قائد القافلة أن رسول الله وجيشه خرجوا يترصدون قافلتهم التي فيها أموالهم وتجارتهم وهي قادمة من الشام، فجمعوا جيشا قوامه ألفاً أو يزيد وأرادوا الخروج لحماية القافلة. وبعد وقت قصير أرسل أبو سفيان أنه ذهب بالقافلة تجاه طريق الساحل وأصبح في مأمن، ومع ذلك أصر أبو جهل على خروجه لملاقاة جيش المسلمين فجاء إليه عتبة بن ربيعة وهو من القادة في قريش فقال له ولقومه: دعوا محمدا وما يدعو فإن ساد فملكه ملككم وعزه عزكم، وإن يخلص إليه العرب فهو ما تريدونه، وهذه قافلتنا وأموالنا عادت إلينا، اعصبوها برأسي وقولوا جبن عتبة، فرفض أبو جهل وتعنت ولم يأخذ بنصيحته. وكان ظنه أن يقضي على النبي ﷺ ودعوته.
تحرك جيش مكة بقيادة أبي جهل وخرج معه عتبة الذي كان منذ قليل يقدّم النصيحة لأبي جهل بعدم الخروج، ولكن حال هؤلاء القادة كحال حكام المسلمين اليوم فهم فاشلون؛ همُّهم سمعتهم ومكانتهم وما يملأ بطونهم، فحربهم لدعوة النبي ﷺ في أساسها ودوافعها لأنها تضر بمصالحهم وتجارتهم، فهم أول المستفيدين من بقاء النظام كما هو ولا يريدون أن تذهب القيادة لغيرهم. وسار الجيش حيث أرض المعركة ولأبي جهل دعوة مشهورة تدل على الفشل والحمق وقمة التهور والاستهتار حيث قال: "إن كنا نقاتل محمدا فنحن الغالبون وإن كنا نقاتل الله فليس لأحد بالله طاقة... اللهم من كان على الباطل فاحنه الغداة"، يريد أن يسمع قومه بهذا الدعاء ليضللهم ويبعدهم عن الحق ويذهب بمشاعرهم تجاه ما يريد. وهو يعلم أنه على الباطل وأن محمدا على الحق، وكانت النتيجة نصرا ساحقا للمسلمين، وهزيمة منكرة لقريش وكان مقتل قادة قريش في هذه المعركة عدا القتلى في صفوف جيشهم نتيجة غباء القيادة واستهتارها وعدم حرصها وتحملها للمسؤولية وتكبرها ومعاندتها للحق.
هذا مثال على القيادة الفاشلة.
وأما القيادة الناجحة والتي تفكر باستنارة ووعي وتحرص على من معها ومن خلفها من الأرواح والأعراض والممتلكات، فهي قيادة النبي ﷺ لفتح مكة. فقد أغلق المدينة على كل خارج منها لكتم خروجه وحشد المقاتلين وأعدّهم وكتم خبر وجهته التي يريدها. وسار في طريق يخالف طريق مكة والتف بجيشه وغير وجهته حتى حار الصحابة بأمر المكان الذي يقصده ﷺ. حتى مكة لم تعلم بجيش المسلمين إلا وهو على أعتابها ولم يعد ينفعها شيء أو يسعها الوقت للإعداد فقد فات الأوان.
ودخل جيش المسلمين مكة فاتحا بأقصر جهد ووقت وبأقل التكاليف، ولم يحدث أي قتال أو مقاومة من أهل مكة تذكر، فقد أسقط في أيديهم. فهذه هي القيادة الناجحة والتي تمثلت بقيادة النبي ﷺ فقد أدت تكتيكات القيادة إلى فتح مكة وإسلام أهلها.
هذه القيادة بشقيها تسمى في المصطلحات العصرية القيادة السياسية فهي التي تحرك العسكريين وهي التي تسوس شؤون من خلفها وترعى أحوالهم وتدير مصالحهم وهي التي تخطط وتتكتك لصلاح من خلفها ومن اتخذها قيادة. ونحن الآن في ثورة الشام بل وفي كل مكان أحوج ما نكون لقيادة سياسية ناجحة تتقي الله وتقود العسكريين والمدنيين وتقود الثورة إلى بر الأمان. ولسنا بحاجة لقيادة سياسية مصنّعة على أيدي الغرب كالائتلاف العلماني وهيئة التفاوض وما تفرع عنهما من حكومة مؤقتة وإنقاذ تسير بأمر الداعم وتحقق مصالحه وتقودنا لهلاكنا والقضاء على ثورتنا.
يا أهلنا في الشام: إن الخصال التي يجب أن تحملها القيادة السياسية والتي لا بد لكم أن تجلبوها وتضعوها محل قيادتكم الحالية التي أوردتكم المهالك وفرطت بالثوابت، ولا يهمها عذابكم ولا شدة الظلم المطبق عليكم، إنما هي خصال ثلاث:
أولا: أن تكون صاحبة مشروع واضح وصريح منبثق من عقيدة الأمة تقدمه لها وتدعو جميع شرائح المجتمع لحمل هذا المشروع والعمل لإنجازه، ولا يخفي أفرادها وجوههم أو أفكارهم أو مطالبهم، أو يتلونون لخداعكم وتضليلكم وحرفكم عن هدف ثورتكم، وأن يسيروا معكم في حلكم وترحالكم ويجري عليهم ما يجري عليكم.
ثانيا: أن تكون هذه القيادة من أبنائكم الذين تعرفونهم وتعلمون مواقفهم وصدقهم وقد جربتموهم طوال أيام هذه الثورة، فلم يُفتنوا بمال أو بسلطان أو يطيعوا داعما أو يُزيفوا حقيقة أو يَسفكوا دما أو يبيعوا تضحياتكم. أصحاب وعي وفهم وإلمام بالسياسة الدولية وما يتخللها من أحداث في الداخل والخارج، وأن يكونوا أصحاب مبدأ ملتزمين بأحكام الإسلام لا يحيدون عنها مهما كلف ذلك.
ثالثا: أن لا تكون لهم صلات بأي دولة صديقة أو عدوة داعمة أو محاربة ولا يقبلوا أي دعم أو إعانة من أحد إلا منكم ومن أهلهم دون قيد أو شرط وأن يسيّروا أمورهم وأموركم بحسب أحكام الإسلام فلا يقبلوا أو يرفضوا أي أمر أو يتنازلوا عن أي أمر أو يعقدوا هدنة أو صفقة أو أي قضية إلا ضمن ما يقرّه الشرع، وما دون ذلك فالواقع معلوم والمآل معروف.
وما خاب ولا خسر من تعلق بحبل الله فهو حبل النجاة وهو الفرج بعد الكرب والضيق وهو البوصلة في التيه والضياع والعاقبة للمتقين.
بقلم: الأستاذ نور الدين الحوراني
رأيك في الموضوع