نجحت أمريكا بعد جهود حثيثة، في الإطاحة بحكومة سلفادور اللندي الديمقراطية في تشيلي من خلال انقلاب عسكري، فجاءت بالجنرال أوغستو بينوشيه؛ القمص الرهيب إلى السلطة، فأنشأت حكومة ديكتاتورية آنذاك بتعيين أولاد شيكاغو؛ الذين هم مجموعة من الاقتصاديين تلقوا تدريبهم في جامعة شيكاغو، وتم تكليفهم بإعادة بناء اقتصاد تشيلي، فأنتجت ضروبا من التخريب والتدمير الاقتصادي. كان الهدف من الإطاحة بالديمقراطية في تشيلي، حسب ما قالته إدارة الرئيس نيكسون حرفياً: (القضاء على الفيروس)، وذلك في إشارة لمقولة هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الشهير الذي وصف النزوع للتحرر من التبعية الأمريكية بالفيروس، فقال: "إن السبيل الأمثل للتعامل مع مثل هذا الخطر يكمن في القضاء على الفيروس، وتلقيح أولئك الذين من المحتمل أن تنتقل إليهم العدوى". ندرك أن ذلك التفكير كان سائداً وما يزال في كافة أنحاء العالم. "من كتاب كيف يحكم العالم للكاتب نعوم تشومسكي".
إن كان هذا الأسلوب قد فرض على القارة الأمريكية في وقت مبكر، إلا أنه بعد الحرب العالمية الثانية، تم استنساخ نسخة منه معدلة وراثياً لتتواءم مع كل بلد في العالم. وقد كان تقدير أدولف بيرل مستشار الرئيس فرانكلين روزفيلت، مؤشراً لسياسة أمريكا ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث قال: "إن السيطرة على موارد الطاقة الهائلة في الشرق الأوسط يفرض بصورة أساسية السيطرة على العالم، وإن فقدان هذه السيطرة يهدد مشروع الهيمنة الأمريكية على العالم". وهذا ما تجلى تماماً بعد الحرب العالمية الثانية إلى يومنا هذا.
هذه المقدمة الطويلة نسبياً كانت ضرورية لتفسير الكثير من الأحداث الإقليمية التي تدور حولنا، وكما أنها تنطبق على ما يجري في السودان.
إن ما صدر ويصدر من تشريعات، وقرارات من الحكومة الانتقالية، والتي هي بمثابة حكومة الثورة والتي كان المعول عليها تحقيق تطلعات الثوار، إلا أن الأمور تجري عكس ذلك تماماً؛ لأن ما أصدرته من تشريعات وقوانين كانت صادمة للأمة، ومصادمة لعقيدة الإسلام، كأن الحكومة الانتقالية جيء بها لمحاربة الإسلام. أما على الصعيد الاقتصادي، والذي كان السبب الأساسي وراء إشعال شرارة الثورة التي أسقطت حكومة الإنقاذ وما دفع الناس إلى الخروج إلى الشارع آنذاك، إلا ضيق العيش، وضنك الحياة، فها هي الحكومة الانتقالية تنازع حكومة الإنقاذ البائدة في الفشل، فقد دفعت هذه الحكومة الناس إلى هاوية الهلاك، فأضحت الحياة جحيما لا يطاق، حيث لا تكاد تجد حديث الناس يخرج عن نطاق غلاء المعيشة وضنك العيش وفقدان أبسط الخدمات من ماء وكهرباء وتردٍّ أمني غير مسبوق وانتشار الأوساخ حتى ظلت الخرطوم العاصمة الأولى على نطاق العالم في التردي البيئي، فقد أصيب الناس في بادئ الأمر بالدهشة ولم يصدقوا أن هذه هي حكومتهم التي جاؤوا بها، فما لبثوا أن تحول حالهم إلى اليأس، بل إلى الإحباط الكامل، فصعب على الناس إيجاد تفسير معقول لما يقوم به هؤلاء الحكام من إجراءات، فذهب البعض إلى قلة خبرتهم، وآخرون قالوا بقلة الإمكانات المتاحة لديهم، وبعضهم يرمي باللائمة على النظام البائد. والحقيقة هي أن هذه الحالة ما هي إلا نتيجة استجابة الحكومة الانتقالية للضغوط الأمريكية، تنفيذاً لسياسات صندوق النقد والبنك الدوليين في أكلح وجه لها والتي ما قصد بها إلا جعلهم النسخة المدنية لأولاد شيكاغو، حيث نشرت السفارة الأمريكية حين تشكيل الحكومة الانتقالية، خبراً خطيراً في تغريدة على تويتر لم يلق أي اهتمام إعلامي، مفاده أنّ السفارة الأمريكية في الخرطوم: "تُعلن وبفخر أنّ العديد من الوزراء السودانيين الذين أدّوا اليمين الدستورية هم من خريجي برامج التبادل، وأنّنا لم يتوقف تعاوننا مع السودان من خلال هذه البرامج مُطلقاً، وسيقفز هذا التعاون للمضي قُدُماً في المُستقبل".
إن المبادرة التي أطلقها رئيس الوزراء حمدوك بعنوان: "الأزمة الوطنية وقضايا الانتقال - الطريق إلى الأمام" والتي طالب فيها أن تكون له اليد الطولى على القوات النظامية، والتي تأخرت كثيراً، وكان من المحتمل أن تجد حظاً من الاهتمام، إذ كانت في وقتها حين حمله الشعب السوداني على أكتافه، ووضعه تاجاً على رؤوسه، وأعطاه شيكا على بياض لحكم السودان، ولكن تأخر كثيرا فقدمها بعد أن استنفد نصيبه من التأييد الشعبي، وفقد رصيده من السند، فبدا كمن يناطح الصخر برأس حاسر حتى من الشعر ففدخ نافوخه، ولم ينل من خصمه شيئاً.
إن ما أوردته صحيفة العرب اللندنية من مخاوف جراء توتر الوضع في السودان بين أقطاب السلطة الانتقالية، في ظل مخاوف من استغلال بعض الجهات لهذه الأوضاع لزيادة تعقيدات المشهد السوداني، وما لازم ذلك من زيارات سرية وعلنية متبادلة بين حكومتي السودان ومصر، وما جرى مؤخراً من نقاش بين رئيس أركان الجيش المصري محمد فريد حجازي مع كل من الفريق البرهان رئيس مجلس السيادة، ومع الفريق أول محمد عثمان الحسين رئيس هيئة الأركان، حول كيفية مجابهة البلدين لمحاولات زعزعة استقرار الأمن القومي السوداني، وتأثيرات ذلك على نظيره المصري في إشارة واضحة إلى الخلاف بين طرفي الحكم المدني والعسكري من ناحية، ومن ناحية أخرى بين العسكر والعسكر من ناحية أخرى، فكان اللقاء السري بين وفد الموساد مع حميدتي وبعض الضباط من الدعم السريع، بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. حيث يرى الكثير من المراقبين أن هذه اللقاءات لها ما بعدها، وأنها توحي بقدوم النسخة العسكرية من أولاد شيكاغو في السودان.
يقول أهل الشام "لا يجرب المجرب إلا العقل المخرب"، إن هذه الدائرة الشيطانية المقيتة التي يراد لنا أن ندور حولها منذ (الاستقلال) وهي حكم مدني فاشل يتبعه حكم عسكري غاشم، لا بد من الخروج منها، والتفكير بشكل أوسع وبعمق أكبر، إذ المسألة تتعلق باستعادة إرادة الأمة، وهو ليس أمراً محلياً فحسب، إنما هو سباحة عكس تيار السياسة الدولية، والتي تعجز هذه الدويلات القطرية التي صنعها الاستعمار عن الوقوف في وجهها، ولا بد من دولة مبدئية لديها طريقة تفكير خارج إطار الصندوق الرأسمالي الاستعماري، وهي دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
رأيك في الموضوع