بسم الله الرحمن الرحيم
السؤال:
انعقدت في جنيف الأربعاء 16/6/2021 أول قمة بين الرئيسين الأمريكي بايدن والروسي بوتين، فما مغزى هذه القمة؟ وما الهدف منها؟ وهل تحققت نتائج إيجابية لاجتماع الرئيسين في جنيف، بمعنى هل تتجه العلاقات الأمريكية الروسية نحو التحسن بعد سنوات وصفت فيها بأنها الأسوأ في تاريخ البلدين؟
الجواب:
لا يمكن فهم أبعاد القمة الأمريكية الروسية إلا بفهم الخلفيات التي أدت إلى تدهور العلاقات بين البلدين في السنوات الأخيرة:
1- يردد الكثير من وسائل الإعلام وبعض السياسيين وصف الدولتين أمريكا وروسيا بـ"العملاقين" استمراراً لواقع ترسخ في الأذهان بأن أمريكا ودولة "الاتحاد السوفييتي" هما أقوى وأكبر دولتين في العالم ولكل منهما معسكر، والحقيقة أن الضعف الكبير الذي طرأ على دولة روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أنزلها مراتب كبيرة عن مستوى المنافسة الدولية مع أمريكا. ولكل ذلك فإن القمة المعقودة بين رؤساء البلدين هي أقل شأناً بكثير من القمم الأمريكية السوفييتية التي كان يترتب عليها الكثير من التبعات، إذ لم يبق من أركان عظمة روسيا إلا القوة العسكرية خاصةً النووية والصاروخية وقدراتها الفضائية، وأما غير ذلك فليس في روسيا أي عظمة!
2- أخذت العلاقات الروسية مع أمريكا تشق طريقها نحو التردي مع نهاية إدارة أوباما، حيث كانت العقوبات بسبب احتلال روسيا لجزيرة القرم سنة 2014 وطردها من مجموعة الدول الثماني الكبار، ثم العقوبات بسبب التدخل في الانتخابات الأمريكية سنة 2016، وطرد إدارة أوباما لـ35 دبلوماسياً روسياً وفرضها عقوبات على أجهزة الاستخبارات الروسية نهاية كانون الأول 2016، أي بعد فوز ترامب بالانتخابات الأمريكية وقبل تسلمه لمهام منصبه (دوتشيه فيليه، 14/1/2017)... وعلى الرغم من كل الكلام المعسول الذي كان يتفوه به ترامب تجاه بوتين إلا أن أمريكا استمرت تفرض المزيد من العقوبات على روسيا، وتدفع بالعلاقات بينهما نحو التوتر، فأغلقت الممثليات القنصلية لروسيا في العديد من المدن الأمريكية، والتضييق على القنوات الإخبارية الروسية في أمريكا، وكانت العقوبات الأمريكية تفرض على روسيا لأسباب وجيهة وغير وجيهة، فتفرض لاعتقال المعارض الروسي نافالني، وتفرض لتهم تسميم المعارض الروسي سكريبال في بريطانيا سنة 2018، وكانت تفرض على شركات تكنولوجية روسية بتهمة هجمات سيبرانية كما في نهاية إدارة ترامب، ولما جاءت إدارة بايدن فقد زادت من تأزيم العلاقات، فوصف الرئيس الأمريكي بايدن رئيس روسيا بوتين بـ"القاتل" وأنه سيدفع ثمن تدخله في الانتخابات الأمريكية (سكاي نيوز عربي 17/3/2021) وغادر السفير الروسي واشنطن على أثرها خلال آذار 2021، ثم غادر السفير الأمريكي موسكو في الشهر التالي... وهددت أمريكا بفصل روسيا عن النظام المالي الدولي.
3- تحمل إدارة بايدن الديمقراطية المزيد من الكراهية لروسيا ولرئيسها بوتين وتتهمه بأنه سبب خسارة هيلاري كلينتون للانتخابات الرئاسية سنة 2016، فكان الديمقراطيون في المعارضة يطالبون الرئيس السابق ترامب بمعاقبة روسيا ويتهمونه بالتهاون معها، وكانوا يحرجونه في ذلك ويتوعدون روسيا إن فازوا بالانتخابات 2020، ولما فاز الرئيس الديمقراطي بايدن في تلك الانتخابات وتزامن ذلك مع هجمات سيبرانية قوية للغاية ضد أنظمة شركة "سولار ويندوز" التي تستخدمها وكالات أمريكية حكومية حساسة واتهمت المخابرات الأمريكية روسيا بهذه الهجمات السيبرانية... وصارت أمريكا تصف روسيا بـ"العدو"... بل وقبل القمة بيومين هدد بايدن بضم أوكرانيا لحلف الناتو! وهكذا فإن هذا اللقاء كان لا يتفق مع التوتر بين الدولتين، بل له وجه آخر. وبتدبر خلفياته ومجرياته يتبين:
أ- تم الانتهاء من الاجتماع بين الرئيسين بعد ساعتين ونصف منه بعد أن كان مقرراً له أربع ساعات، ولم يتم عمل مؤتمر صحفي مشترك بين الرئيسين، وقام كل منهما بعقد مؤتمره الصحفي منفرداً ونقلت كلا المؤتمرين قناة الجزيرة 16/6/2021 ووسائل إعلام أخرى بشكل مباشر، واقتصر البيان المشترك على اتفاق الجانبين بأنه لا رابح في الحرب النووية مع أنها لا تلوح في أي أفق بينهما، وتعهد الرئيس الأمريكي بايدن بمواصلة التزام واشنطن باتفاقية ستارت 3 لخفض الأسلحة الاستراتيجية بعد أن تقوم اللجان التي اتفق على تشكيلها بإنجاز المطلوب في هذا الجانب، وتم بحث المسائل الخلافية الكثيرة بين البلدين، وسأل الرئيس الروسي نظيره الأمريكي عن وصفه له بـ"القاتل"، وتحدث بايدن في مؤتمره الصحفي عن الآثار المدمرة لاحتمال وفاة المعارض الروسي نافالني في السجن، لكنه وصف المؤتمر بالمثمر والإيجابي واعترف ضمناً بأن اللقاء تضمن تهديد روسيا إن هي قامت بالتدخل بالانتخابات الأمريكية مرة أخرى أو قامت بهجمات سيبرانية مرة أخرى، وقال الرئيس الروسي في مؤتمره الصحفي إنه من الصعب القول بأن العلاقات بين البلدين في تحسن، لكنه تحدث عن بارقة أمل لذلك، وهاجم الولايات المتحدة في مسائل حقوق الإنسان مذكراً بسجون المخابرات الأمريكية في غوانتنامو ودول أخرى والممارسات اللاإنسانية لأمريكا ضد السود وضد شعوب أخرى، وذلك رداً على الانتقادات الأمريكية اللاذعة بخصوص حقوق الإنسان داخل روسيا، وتحدث بايدن عن أهمية عقد لقاء مباشر بينه وبين بوتين تجنباً لأي سوء فهم في العلاقات بينهما، وأوحى بأن مستقبل العلاقات منوط بخطوات من روسيا.
ب- وبالتدقيق نجد أن أمريكا هي التي كانت تبادر للضغط على روسيا، وأن أمريكا هي من قام بتأزيم العلاقات بينهما لدرجةٍ وصفها رئيس روسيا بوتين في وقتٍ سابق بأنها "مدمرة بشكل كبير"، وهي أي أمريكا من بادر إلى عقد لقاء القمة بين الزعيمين دون أن يكون هناك اتفاق على نقاط الخلاف بينهما، واستبشرت روسيا خيراً وهللت بأن بايدن هو الرئيس الأمريكي الأول الذي يقرر الاجتماع برئيسها في جولته الخارجية الأولى كدليلٍ روسي على الأهمية التي توليها واشنطن لموسكو، فرد عليها الرئيس الأمريكي بايدن بزيارة بريطانيا واجتماعه مع رئيس وزرائها جونسون، وجعل قمة السبع الكبار في بريطانيا حضورية بعد أن كان يتوقع لها أن تكون افتراضية عبر الإنترنت، وزاد عليها بايدن بقمة حضورية لحلف شمال الأطلسي في بروكسل وعقد خلالها اجتماعات عدة بما في ذلك مع رئيس تركيا أردوغان، وفي بروكسل أيضاً عقد بايدن لقاءً نادراً من نوعه مع رؤساء المجلس الأوروبي تشارلز ميشيل والمفوضية الأوروبية أورسولا دير لاين، فأصبح بذلك لقاء بايدن-بوتين واحداً من لقاءات كثيرة يعقدها الرئيس الأمريكي حضورياً في جولته الأوروبية، أي تقزيماً لآمال روسيا في مؤتمر خاص بها!
ج- ولكل ذلك يمكن القول بأن النتائج الإيجابية للقاء القمة بين الزعيمين كانت بسيطة للغاية واقتصرت على إعادة سفراء البلدين كل لعاصمة الآخر، والتعهد بخصوص معاهدة ستارت 3 الاستراتيجية، وأن تحسن العلاقات بينهما رهن بخطوات روسيا القادمة، أي تنازلاتها وأخطائها كتلك التي كانت في خطأ روسيا الاستراتيجي الذي تمثل في مساعدة أمريكا في سوريا، فبإعلان رئيسها بوتين تدخله العسكري في سوريا بعد اجتماعه مع الرئيس الأمريكي أوباما في نيويورك 28 أيلول 2015 كانت روسيا بذلك قد عرضت خدماتها العسكرية لصالح أمريكا، وربما كانت روسيا تندفع بحقدها على الإسلام والمسلمين للقتال في سوريا، وربما اندفعت كذلك لفك عزلتها الدولية بعد احتلالها لجزيرة القرم سنة 2014 وما تلاها من عقوبات غربية، لكن الأهم أن أمريكا قد تذوقت الخدمات العسكرية الروسية وشاهدت أهميتها لخدمة نفوذها في سوريا وأنها صارت تطمع وبشكل كبير بنقل هذه المهمة إلى محيط الصين. فكان تدخل روسيا في سوريا وهي تعي عمالة بشار لأمريكا خطأً استراتيجياً كبيراً لا تقدم عليه قيادة عاقلة لأي دولة مستقلة.
د- وأما أهداف أمريكا غير المعلنة من ضغطها على روسيا فهي جعل روسيا حجراً دولياً في الاستراتيجية الأمريكية ضد الصين، وإذا كان وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر هو مهندس إشراك روسيا في الضغط على الصين وإجبارها على التعايش السلمي مع أمريكا إبان الحرب الفيتنامية أواسط الستينات من القرن الماضي فإن هذا الكهل الأمريكي ظلت دوائر السياسة الأمريكية تنظر إليه باعتباره مفكراً سياسياً استراتيجياً وصاحب نظرةٍ ثاقبة في السياسة الدولية، لذلك رتبت له تلك الدوائر سنة 2016 اجتماعين مهمين ومنفردين وهو في التسعينات من العمر مع المرشحين الأمريكيين للرئاسة هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، وكانت توصياته لهما بأهمية ووجوب إشراك روسيا ودفعها مع أمريكا ضد الصين.
ه- وعلى الرغم من كون هذه الأهداف الأمريكية غير معلنة إلا أن أمريكا تنقلها لروسيا بطريق أو بآخر وأن روسيا تفهمها جيداً، فقد أكد وزير الخارجية الروسي لافروف (أن الولايات المتحدة لن تتمكن من تحويل روسيا إلى أداة لخدمة مصالحها، ومواجهة الصين... يناقشون الآن وبجدية، كيفية استخدام روسيا ضد الصين لصالحهم... رغبة منهم في جعلنا أداة لخدمة مصالح الولايات المتحدة". وأضاف: "لكن بالطبع هذا الأمر لن ينجح معنا".) آر تي 24/12/2018.
و- وهذا تحديداً ما تريده أمريكا من روسيا، لذلك تضغط عليها وتوتر الأجواء معها تطبيقاً لنظرية هنري كيسنجر لاحتواء الصين بإشراك روسيا، وإلا فإن روسيا لا تنافس أمريكا لا في الاقتصاد ولا في السياسة الدولية ولا يوجد فيها من مقومات الدول الكبرى إلا الآلة العسكرية، وقد وضعت المعاهدات الأمريكية السوفييتية ثم الروسية آلة روسيا العسكرية في إطار الانضباط البعيد عن تهديد أمريكا، بل إن أمريكا تنصلت من معاهدات كثيرة مثل اتفاقية الصواريخ المضادة للصواريخ المعقودة منذ سنة 1972 وقامت ببناء درعها الصاروخية، ولا تملك روسيا اقتصاداً قوياً يؤهلها لمزيد من تطوير قدراتها العسكرية شبيه لما تملكه أمريكا من قدرات... وهكذا فإن قدرات روسيا النووية والاستراتيجية لم تكن السبب والدافع لتوتير أمريكا للعلاقات معها، وإنما كان هذا التوتير في العلاقات مع روسيا مقصوداً منه الضغط عليها لكي تبتعد عن الصين التي أصبحت مركز تنبه كبير لدى أمريكا، فدعا وزير دفاعها السابق باتريك شاناهان قادة جيشه إلى التركيز على الصين قائلاً "الصين، ثم الصين، ثم الصين" (الجزيرة نت، 3/1/2019).
ز- ومع ذلك فإن أمريكا بتوتيرها العلاقات مع روسيا قد فشلت حتى الآن في دفع روسيا ضد الصين، وخاصة أن ضغط أمريكا على روسيا تزامن مع ضغطها على الصين بالحرب التجارية، وهذا قد أنشأ تقارباً روسياً مع الصين... أي أن الضغط الأمريكي على روسيا لإجبارها على السير معها ضد الصين صار يؤتي نتائج معاكسة لما تريده أمريكا، وهي لا شك تدرك خطورة التوجه الروسي للتقارب مع الصين... لذلك قررت إدارة بايدن وضع أسلوب "الضغط" على روسيا جانباً، وأن يحل مكانه أسلوب إعطائها "بارقة الأمل" عبر لقاء القمة، ومن ثم إبعاد التقارب الروسي الصيني بقدر الإمكان... وفتح حوار كبير معها عبر اللجان التي تم تشكيلها في اجتماع الزعيمين.
4- وهكذا فإن لقاء بايدن مع بوتين هو لتحقيق هذا الهدف أي إعطاء بارقة أمل لبوتين من حيث إزالة التوتير الأمريكي وضغوط العقوبات تجاه روسيا كوسيلة لمساندة أمريكا في موقفها تجاه الصين أو على الأقل لمنع التقارب الروسي مع الصين. أما غير ذلك من نقاط التوتر بين الدولتين فهي لا تستأهل كل تلك الأهمية الكبيرة، فمثلاً النقاش بينهما حول سوريا وأن أمريكا تريد حل الأزمة السورية كما تريد هي، فهذا لا تعارضه روسيا ما دام يحفظ لها ماء وجهها، وكذلك في أفغانستان فإن روسيا أعجز من إشعال الأرض تحت أقدام أمريكا في أفغانستان كما أشعلتها أمريكا ضدها إبان الثمانينات، ثم إن تدخل روسيا في الانتخابات الأمريكية فذلك يعود إلى انفتاح الإنترنت كوسيلة جديدة للتأثير وربما لم تكن روسيا تقدر قوة ردة فعل أمريكا، وإلا لابتعدت عن ذلك التدخل. أما الهجمات السيبرانية التي تتهم أمريكا روسيا بالقيام بها فليست ذات تأثير فعال يصعب علاجه وقد رد عليها بايدن بعد قمته مع بوتين بأن لأمريكا قدرات هائلة لاختراق روسيا والتخريب الإلكتروني فيها إذا ما عادت روسيا مرة أخرى للاختراق، وضرب مثالاً عن قدرتها على تخريب خطوط أنابيب النفط الروسي...
5- غادر الرئيس الروسي جنيف وهو يعلم جيداً بأن أمريكا بانتظار خطوات روسيا القادمة في الشهور المقبلة وأنها بصدد فحص وتدبر تلك الخطوات عبر اللجان المشتركة التي تم إقرار تشكيلها، ويعلم الرئيس الروسي جيداً بأن قدرات الضغط الأمريكي على روسيا هائلة وقد جرب بعضها، ويعلم كذلك بأن الصين قد تتركه وتتوجه نحو الغرب لأن مصالحها التجارية في الغرب أكبر بكثير من مصالحها التجارية مع روسيا، لكل ذلك فإن الشهور القادمة ستشهد على الأرجح انفراجاً في العلاقات الأمريكية مع روسيا، وأن إعادة السفراء هي المقدمة، والراجح أيضاً أن تأخذ العلاقات الروسية الصينية طريقها نحو البرود، فبقدر الدفء في علاقات روسيا مع أمريكا فإن ذلك يخلف بروداً في علاقاتها مع الصين. وإذا ما تحقق ذلك فإن مبادرة الرئيس الأمريكي بايدن بعقد القمة مع الرئيس الروسي بوتين تكون قد وضعت حداً للتقارب الروسي مع الصين، وكذلك قد وضعت روسيا على طريق الضغط على الصين وإن كان بدرجة أقل من توقعات أمريكا وفق نظرية كيسنجر، وإذا لم يتحقق ذلك واستمرت نزعة التمرد داخل روسيا بقيادة بوتين فإن المتوقع أن تقوم إدارة بايدن بمضاعفة ضغوطها على روسيا وتهديدها بحزام من النار حولها في القفقاز حيث النزاع الأذري الأرمني ثم أوكرانيا ودعم الغرب لها لإعادة توحيد أراضيها...
وهكذا فإن هذه الدول الطاغية، وعلى رأسها أمريكا، لا تفكر فيما يصلح الناس، بل فيما يحقق لها مصالحها حتى وإن كانت قاتلة للناس ﴿أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ﴾.
التاسع من ذي القعدة 1442ه
20/6/2021م
رأيك في الموضوع