تناقلت وكالات الأنباء تصريحات مسؤولين في أمريكا وأوروبا والدول العربية عن وجود فرصة تاريخية لإنهاء قضية فلسطين من خلال حل دائم يقوم على التصور الأمريكي عن حل الدولتين. كما نقلت تصريحات رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية عن مرحلة استراتيجية تتبع انتصار المقاومة في غزة.
لا شك أن الحرب التي اشتعلت نيرانها في الأقصى وتأججت في غزة قد أثبتت حقائق كثيرة على أرض الواقع أهمها أن فلسطين لا تزال في قلب الأمة الإسلامية بجميع مكوناتها، وأن الأقصى لا يمكن التنازل عنه ليهود مهما طال أمد الاحتلال، وأن الأمة جاهزة للتضحية بالغالي والنفيس من أجل تحرير أرضها ومقدساتها وإرادتها، وأن الأنظمة القائمة في البلاد الإسلامية لا تزال تقف في خندق أعداء الأمة وخاصة أمريكا وبريطانيا وكيان يهود، وأن كيان يهود كيان هش لا يمكن أن يصمد أمام حرب حقيقية مع الأمة ولا حتى مع جزء من الأمة محاصر في غزة. هذه حقائق لا نسردها هنا للتسلية أو المواساة وإنما لتأكيدها لمن لا تزال تساوره وساوس شيطان أمريكا أو بريطانيا من المضبوعين والمخدوعين والعملاء.
ونذكر بها خاصة لمن بدأت تغلي في عروقهم موجة من الذعر مما هو على وشك أن ينفجر في وجوههم من اصطفاف جيوش المسلمين إلى جانب أمتهم لينصروها في فلسطين بل ليطيحوا بعروش حكام نذروا أنفسهم وسخروا جيوشهم لخدمة الكافر المستعمر على حساب هذه الأمة العظيمة.
نذكر من بدأ بالتحرك ليستغل دماء الشهداء وتضحيات المسلمين في غزة وفلسطين لتمرير ما تحدث عنه بايدن وميركل وجونسون من أن الوقت حان وأن الفرصة غدت سانحة أكثر من أي وقت مضى لتثبيت كيان يهود في فلسطين دولة تعترف بها مكونات أهل فلسطين بما فيهم فصائل المقاومة. ولا يخفى ما يتم تداوله من تبني مصر رسميا لوقف إطلاق النار وتصريح أجهزة كيان يهود على أن وقف إطلاق النار جاء تماشيا مع مقترحات مصر، وتقديم رموز المقاومة الشكر لمصر لما قدمته في سبيل تحقيق وقف إطلاق النار.
وإنه وإن كانت أمريكا تحرك كثيرا من القضايا من أروقة وزارة خارجيتها، إلا أن تدخل مصر السافر في موضوع وقف إطلاق النار وتبني متابعة المرحلة الاستراتيجية التي تحدث عنها مسؤولون في حماس، نقول إن لهذا التدخل أهمية خاصة تتماهى مع استراتيجية المرحلة كما وصفت. وأهم الميزات هي أن مصر قد مرت بتجربة مماثلة عام 1973 حين حقق الجيش المصري أروع انتصار على كيان يهود وكاد أن يسحقه ويجتثه من جذوره، لولا أن أحابيل السياسة ومكر أصحابها كانت أشد وأعتى من الانتصار العسكري. فقد كان الانتصار العسكري هدفا لا يشك أحد في تحقيقه، وفي مقدرة الجيش المصري عليه. أما المرحلة الاستراتيجية التي تلته فكانت كما صرح عنها السادات حين أقدم على عقد صلح مع كيان يهود واعترف له بأحقيته بدولة في فلسطين، حيث صرح بـأنه من حقه أن ينتصر في السلام كما انتصر في الحرب، على اعتبار أن السلام مع يهود والاعتراف به مقابل خروج يهود من سيناء هو انتصار!
ومصر اليوم تتسلم زمام المبادرة فيما بعد حرب غزة والأقصى المبارك، وتقود الحملة نيابة عن أمريكا. ومصر تحديدا لا تؤتمن على أي مصلحة من مصالح الأمة فكيف إذا كانت هذه المصلحة هي فلسطين والأقصى والقدس؟! فمصر قد ركنت إلى أمريكا في حرب سنة 1956 على قناة السويس وتعتبر نفسها مدينة لأمريكا بحمايتها من العدوان الثلاثي عليها. وبعد حرب سنة 1967 كانت مصر قد شرعت بتسويق مشروع روجرز الأمريكي بحل الدولتين والاعتراف المتبادل مع كيان يهود. ثم عملت سنة 1974 على تسليم قضية فلسطين لمنظمة التحرير الفلسطينية، حتى إذا انخرطت هذه المنظمة في صلح مع يهود واعترفت بكيانه تبعتها باقي الدول العربية وغيرها. وفي عام 1978 قام السادات نفسه بزيارة لكيان يهود وزار الكنيست واجتمع بيهود في القدس واعترف بالكيان دولة شرعية. وبذلك تكون قد تخلت مصر وسحبت نفسها وجيشها ومقدراتها من المعركة مع كيان يهود لتصبح عرابا وسمسارا لأمريكا في تنفيذ مشاريع الاستسلام وتسليم فلسطين رسميا لليهود. ومنذ مجيء السيسي للحكم في مصر في انقلابه على الرئيس المنتخب، وهو لا يألو جهدا في محاولة تثبيت كيان يهود والذب عنه بمختلف الوسائل.
لذلك كله فإن مصر في عهد السيسي كما كانت في عهد مبارك والسادات وعبد الناصر قد مردت على الخيانة وعلى التنكر لمبدأ الأمة ومقدساتها وأرضها وكرامتها، فهي ضالعة بالخيانة لأعماق القلب وليس فقط للأذقان، وبالتالي فإن تسلم مصر لملف المرحلة الاستراتيجية التي يلحدون إليها في شتى المنابر ما هو إلا تسليم ملف طاهر ليد غارقة بالرجس. فإن ملف فلسطين ملف طاهر منذ أن أسري برسول الله ﷺ إلى المسجد الأقصى، ومنذ أن دخلها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومنذ أن حررها من رجس الصليبيين صلاح الدين، ومنذ أن أبعد عنها المظفر قطز همجية المغول، ومنذ أن حماها عبد الحميد من دنس يهود، ومنذ أن قضى على ترابها الشهيد القسام، وكوكبة شهداء غزة واللد ويافا والقدس وكفر قاسم ودير ياسين وجنين والخليل وغيرها من مدن وقرى فلسطين. فهي أرض مباركة وأهلها أهل رباط، وملفها ووضعها وقضيتها طاهرة مباركة. فلا يصح أبدا ولا بأي شكل أن يتم تسليم ملفها ومستقبلها وشؤونها لمن مرد على الخيانة وتأصلت العمالة في دمائه، ووقف مع الكافر المستعمر في كل خلجات فؤاده.
وما ينطبق على نظام مصر، فإنه بلا شك ينطبق على من هم أقل منه شأنا وأكثر منه عراقة في العمالة وخدمة للكافر المستعمر وكيان يهود. وحكام العرب كلهم على وتيرة واحدة، يحسبون كل دائرة عليهم، ويخشون من كل نصر يتحقق رغما عنهم، ويجعلون من كيان يهود واستقراره سببا لاستقرار عروشهم، فهم أحرص عليه وعلى الاعتراف به وتثبيته من حرصهم على مصالح الأمة في فلسطين وغيرها.
وهنا لا بد أن نذكر وبشكل حاسم، بأن استمرار الاحتلال واستمرار المقاومة له، واستمرار شعلة القضية في نفوس وقلوب المسلمين أهون ألف مرة من إنهاء هذه القضية المباركة على الوجه الذي تريده أمريكا وعملاؤها وأتباعها وأشياعها. فليحذر الذين يخالفون عن أمر الله بتحرير كافة فلسطين، وليحذر الذين يتلاعبون بالألفاظ ويطالبون بزوال الاحتلال دون التحرير الكامل لكل شبر من فلسطين وإزالة كل أثر ليهود فيها. فبعد الذي رأينا في الحرب الأخيرة من بطولات ومقدرة على إلحاق الهزيمة بيهود لم يعد مكان لمتقوّل أو متأول أن يتحرك تجاه مفاوضات تؤدي إلى تثبيت كيان يهود ولو في حارة من حارات حيفا.
وفي الختام نقول إن الأمة الإسلامية بمجموعها قد حسمت أمرها اليوم تجاه فلسطين والأقصى، وهي هي أمة الخير، أمة الجهاد، أمة الإسلام سوف تحسم أمرها قريبا مع حكامها الذين خذلوها وأوصلوها القاع الأدنى، ولسوف تطيح بعروشهم وتستبدل بهم الخلافة على منهاج النبوة ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
رأيك في الموضوع