عملاً باتفاق جوبا لـ(سلام السودان)، الموقع بين الحكومة والمسارات المختلفة، في تشرين أول/أكتوبر 2020م، فإن البوصلة السياسية في السودان تشير إلى مشاكسات محتملة وفق ما جاء في بنود الوثيقة الدستورية المعدلة، فبناء على نص المادة (79) من الاتفاق، ووفقاً للمادة (80) من الوثيقة الدستورية المعدلة، وعملاً بالمرسومين الدستوريين (38) و(39) لسنة 2019م، أصدر الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قراراً في 01/12/2020م، بإنشاء جسم جديد، وإضافة شركاء جدد تحت مسمى (مجلس شركاء الفترة الانتقالية)، بحيث تم بموجبه، احتواء الحراك الجماهيري، الذي أسقط النظام البائد، وبهذا تكون الوثيقة قد ألغت مطالب الثوار الذين يبحثون عن العدل، بخبث شديد، يشير إلى وجود أصابع المخابرات الأمريكية من وراء ستار، لأن أمريكا تعتبر ملف السلام أحد مطالب رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، فأوعزت للفريق حميدتي (رجل أمريكا القوي) ليقود الوفد الحكومي في المفاوضات لتوجيه النتائج الوجهة التي تبتغيها أمريكا.
ويعتبر هذا القرار انتقالاً إلى عملية سياسية جديدة في السودان، حيث تسعى أمريكا من خلالها إلى تمكين العسكر الموالين لها في الحكومة الانتقالية، وضمان استمرار البرهان رئيساً للمجلس الانتقالي لفترة أخرى مدتها 21 شهراً ابتداء من تاريخ توقيع الاتفاق في 03/10/2020م، لكسب المزيد من الوقت لتركيز النفوذ الأمريكي، وقصقصة أجنحة رجال أوروبا، أو إبقائهم على هامش الحياة السياسية في السودان. من أجل ذلك حدد القرار مهام شركاء المجلس الانتقالي واختصاصاته في خمسة بنود، منها: (1- توجيه الفترة الانتقالية بما يخدم المصالح العليا للسودان)، وواضح من هذا النص الذي لم يحدد ماهية هذه المصالح العليا للسودان، أنه يشمل كل مؤامرة أو جريمة يُراد تنفيذها باسم المصلحة العليا، ولتكون معبراً لتمرير المخططات الخبيثة التي تحوكها دوائر الاستخبارات العالمية ضد السودان، كأن تتكئ عليه الحكومة الانتقالية لتمرير ما تبقى من روشتات صندوق النقد الدولي، أو تقنين المواثيق الدولية، وإبعاد ما تبقى من قوانين الإسلام، أو كأن يستغله البرهان في توثيق الصلة مع يهود وتوقيع اتفاق سلام نهائي بترتيب من الإدارة الأمريكية، ومعروف أن البرهان يعتبر التطبيع مع يهود مصلحة عليا يُعاقب المخالف لها أمام الإدارة الأمريكية، فتراه يسارع في تقنين هذه الجرائم في وثائق دستورية تحتّم التزام كافة الأطراف بها. أورد موقع عربي 21 في 01/12/2020م، نقلا عن صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أن خمسة مسؤولين سودانيين، وغيرهم من الأشخاص المطلعين على المحادثات أكدوا موافقة السودان التوقيع على اتفاق سلام مع كيان يهود، وأن البرهان سبق أن أكد أن أمريكا لا تعطي بلا مقابل بحديثه عن التطبيع مع الاحتلال.
أما البند (2- حل التباينات في وجهات النظر للأطراف المختلفة)، فمعلوم أن شركاء الحكومة الانتقالية في السودان، ذوو ولاءات خارجية مختلفة، ومتفاوتة، ومتشاكسة، فالفريق المدني في الحكومة يرتبط ببريطانيا، وبعض دول أوروبا، أما العسكر فيأتمرون بأمر أمريكا، فلا تجمعهم رابطة غير السلطة المهترئة التي تشرف عليها أجهزة المخابرات العالمية، فمما لا شك فيه حدوث اختلاف وشقاق بينهما، فوضع البرهان البند (2) آلية لفض النزاعات المحتملة، لضمان التحكم في سير العملية لصالح المعسكر الأمريكي.
أما البند (3- حشد الدعم اللازم لإنجاح الفترة الانتقالية وتنفيذ مهامها الواردة في الوثيقة الدستورية واتفاق سلام جوبا لسنة 2020)، فهو لتوجيه الحاضنة الجماهيرية وحشد الناس لصالح العسكر، ضد الفشل التام للفريق المدني الذي يحتضر، فهو في أضعف حالاته، في نظر الشارع العام في السودان حيث تم إفشاله عن عمد، في توفير المقومات الأساسية لحياة الناس، فالعسكر يتحكمون في أهم مفصلين من مفاصل الحكم وهما الأمن والاقتصاد، لينسب الفشل للمدنيين، وهو مبرر كافٍ للإطاحة بهم ورميهم في سلة المهملات. ذهب البرهان أبعد من ذلك، حيث أفرغ قراره هذا مجلس الوزراء من مهامه ووضع حمدوك ووزراء حكومته في خانة المتفرجين، وأحكم قبضته على أعمال المجلس، حيث جاء في البند (5): (أي سلطات أخرى لازمة لتنفيذ اختصاصات وممارسة سلطاته).
وفي هذا الصدد صرًح الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان الأستاذ إبراهيم عثمان (أبو خليل) أن: (تشكيل ما يسمى بمجلس شركاء الفترة الانتقالية، هو التفاف من العسكر "عملاء أمريكا" على ما تم الاتفاق عليه في الوثيقة التي تحكم العلاقة بينهم وبين عملاء أوروبا "قحت ومجلس وزرائها"، وهذا ما يفسر الرفض الصارخ من مكونات قحت "المدنيين" في الحكومة لهذا المجلس). فهذا القرار دفع مجلس الوزراء إلى إصدار بيان في 04/12/2020م جاء فيه: (إن واجبنا كسودانيين أولاً وكجهاز تنفيذي... يحتم علينا إعلان عدم موافقتنا على تكوين مجلس شركاء الفترة الانتقالية بصورته الحالية، وندعو جميع الأطراف لمراجعة قرار التشكيل والاختصاصات...). وبحسب سودان تربيون في 3 كانون الأول/ديسمبر 2020م، فقد (أبدى رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك تحفظات على تكوين مجلس شركاء الانتقال، ملوحاً بمقاطعته حال لم تجر عليه تعديلات جوهرية). و(إن رئيس الوزراء عبد الله حمدوك أظهر عدم رضاه حيال تكوين المجلس). ثم قام بحشد حاضنته الشعبية التابعة لأوروبا، وأجمعوا على منع البرهان من تنفيذ مخططه: (اتفق رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك وقوى الحرية والتغيير - الائتلاف الحاكم، على طابع مجلس شركاء فترة الانتقال التشاوري، لمنع تغوله على صلاحيات المؤسسات الدستورية) سودان تربيون 2/12/2020م. وجاء في موقع عربي21 في 04/12/2020م: (أعلن تجمع المهنيين السودانيين رفضه بشكل قاطع تشكيل ما يسمى مجلس شركاء الفترة الانتقالية).
وكان من الطبيعي أن يجد البرهان لمؤامراته مخرجاً فقال في تصريحات صحفية إن "تشكيل مجلس الشركاء الانتقالي جاء بمبادرة من قوى الحرية والتغيير، وتمت إجازته من مجلسي السيادة والوزراء" (قناة الحرة)، بل تدخل رئيس الأركان بالجيش السوداني محمد عثمان الحسين، يدافع عن رفيقه البرهان وشدد على أن "القوات المسلحة ستحرس اتفاق السلام بقوة، حتى يبلغ مبتغاه ويعم الأمن والاستقرار كل ربوع الوطن"، لافتا إلى أنها "في سبيل ذلك ستكون الحاضنة لكل من يريد الانتماء إليها وفق اللوائح والنظم والقوانين". (عربي21 في 02/12/2020). وسرعان ما قامت أمريكا بإبداء حسن النية لإنجاح مسعى عملائها، فبحسب بيان لسفارة واشنطن لدى الخرطوم، أوردته وكالة الأنباء السودانية الرسمية، (أكدت السفارة أن "الولايات المتحدة تظل شريكا وصديقا مقربا من السودان وشعبه". فأعلنت عن منحة أمريكية للسودان بـ20 مليون دولار لشراء قمح) (الأناضول 01 كانون الأول/ديسمبر 2020م).
هكذا يشتد صراع أمريكا وبريطانيا على مصالحهما في السودان، فتستخدمان في سبيل تركيز نفوذهما، كل الأدوات المحلية الممكنة، ولما كان حال هؤلاء الحكام كذلك، وأصبحوا خدماً لأجندة الغرب المستعمر وأدواتهم، فسيظل أهل السودان يذوقون مرارة هذه الصراعات، ويضرب الفقر كل بيت في السودان، وسيجدون عناء في توفير سبل الحياة الكريمة، ولن يجدوا العز والعدل إلا في ظل الإسلام.
رأيك في الموضوع